منى كريم:
" وهذه أنا
امرأة وحيدة
على عتبة الفصل البارد،
في بدء إدراك الوجود الملوث بالأرض
ويأس السماء البسيط الحزين
وعجز تلك الأيدي الإسمنتية "
/ لنؤمن ببداية فصل بارد -
Let Us Believe In The Beginning "
Of The Cold Season"
كيف للشِعر أن يتحول إلى مشروع نبوة ؟ كيف بإمكانه أن يجلب لشخص ما قدرته على التخاطب مع موته بشكل واضح و مسالم ؟ كيف له أن يجمع بين عشق صوفي و طيران إيروتيكي ؟
هنالك الكثير من الأسئلة التي تراكمت في روحي نتيجة قراءاتي لنصوص الشاعرة الإيرانية فروغ فرخ زاد بالترجمتين العربية و الإنجليزية ، حين قرأت هذه الشاعرة شعرت بمدى الظلم الذي نوقعه على الشعر ، مدى استخفافنا بروحه و جسده و اضطهادنا له بصورة قسرية ، لا أنكر إنني آمنت مطولاً بمقولة أدونيس حول انفصال الشاعر عن التنبؤ و الغيبي و ارتباطه به باعتباره فعل إنساني غير شاذ . لقد جعلتني فروغ في موضع حرج من هكذا إيمان ، فهي شاعرة جعلت من قصائدها مشروعها الشخصي لتحقيق إنسانيتها و أنوثتها و علاقتها مع الوجود ، إنها لشدة التماهي بينها و بين الشعر أصبحت بمثابة صديقة له يخبرها بأسراره ، بل و يتعدى الأمر أن تخبره بأسرارها التي لم تكن قد عرفتها بعد . في مثل هذا الشهر عام 1967 والذي يبدو لي عاماً غريباً فقد رحلت فيه الكثير من الشخصيات بدءاً من تشي غيفارا و وصولاً إلى فروغ فرخ زاد التي اختارت موتها بحرية . في مثل هذا الشهر رسمت فروغ شتاء رحيلها و حددت له في آخر قصائدها أن يكون مع الساعة الرابعة :
مضى الزمن
مضى الزمن ودقّت الساعة أربع مرات
دقت أربع مرات
/ القصيدة السابقة
بعدها خرجت فروغ من موقع التصوير الذي كانت تعمل فيه كونها فنانة سينمائية أيضا ً ، و ماتت في الرابعة و النصف بحادث سيارة ..
شعر فروغ فرخ زاد يحمل الكثير من الشفافية و الاعتماد على اللغة الإنسانية ، تنطلق فيه من حبّها باعتبارها عاشقة تملك عشق الروح و عشق الجسد ، جامعةً بين التمرد على تقاليد الشعر الفارسي - خاصة أنها من جيل شعري أسس لرؤية مغايرة في الشعر أمثال نيما يوشج و أحمد شاملو – و بين الحس الصوفي أو العرفاني المتوارث في الشعر الإيراني باعتباره شعر يرصد لحالاته الروحانية الراقية خاصة علاقات العشق الإلهية . إن في قصائدها الكثير من التلذذ بالخسارة و الألم ، الكثير من الفقد و التنقيب عن عالم يجيد لغة الـ " لا " بدلا من لغة الرضوخ ، عالم يوازي روح الشاعرة الأنثوية الغير خاضعة لأيدلوجية مجتمعها و مشانقه .
بعض الأحيان تجد أن فروغ تملك القدرة على التخاطب مع الطبيعة باعتبارها ذات روح سامية ، و أحياناً أخرى تنزح لصوت الجسد بلغته الصارخة بكل جرأة بل و انطلاقا من إيمان عميق في تكوين ماهية خصوصية لا عبثية . لقد هوجمت فروغ كثيراً لجرأة ما طرحته خاصة بعد ديوانها " العصيان " و الصادر عام 1952 ، فبقت مصرة على رؤيتها بل و قامت بتكريسها عبر ديوانها الثالث " الجدار " – 1956.
إن في هذا التمرد جمال خاص به و مغاير ، لأنه في الدرجة الأولى جمال يحمل الكثير من الروح الشرقية ، و النوستالجيا الشرقية ، دون أية حواجز تمنعه من التنفس . بل أنه يعمد لصنع لغته المتينة و المليئة بالإيحاء والموسيقى الداخلية باسم البحث عن الضوء رغم هذا اليأس المؤلم الذي ينمو في روح الشاعرة ، وهو في حقيقته مجرد ابن لمساحات من الفشل في " الحب " - أسمى الذوات لدى الشاعرة - .
لقد كتبت فروغ أول قصيدة لها و هي في سن الـ 13 ، ثم أصدرت ديوانها الأول " الأسيرة " في سن الـ 17 والذي قامت بإعادة طباعته ثلاث مرات لاحقاً ، و بحرص شديد حاولت أن تطرح عبر تجربتها أرضية جديدة للفرد بعيدة عن الأسواط حيث كانت فروغ تعلن ما يسمى بـ " خطيئة " حسب العرف الديني و الاجتماعي دون أن ترى ضرورة للخجل باعتبارها إنسان من حقه أن يجرب الطيران في كل الاتجاهات .
" أريدك يا معشوقي المجنون ..
أشعل لهيب الشهوة في عينيه
و في الكأس رقص النبيذ الأحمر
و ترنح جسدي على صدره
في السرير الناعم ..
أوه وقعت في الخطيئة ،
وقعت في خطيئة الرغبة "
/ " وقعت في الخطيئة " – ديوان " الأسيرة " **
النبرة التي تسيطر على فروغ هي نبرة الإنسان الأول دون أية مساحيق عليه ، نبرة الطفل الذي لا يعرف لغة وسطية بل ينزح إلى الصراخ أو الضحك ، تحاول عبره أن تكون كل علاقاتها مجرد علاقات حادة في عفويتها من أجل كسر التماثيل و ما رسبه الإنسان من أفكار محنطة .
حين قرأت فروغ بلغتها البسيطة حضرتني تجربة الشاعر الفرنسي رينيه شار بلغته المكثفة و المعقدة ، فهي تشترك مع هذا الشخص في التعامل مع الشعر ، كلاً منهما يكتب القصيدة باعتبارها حياة إضافية و خاصة له ، كلاً منهما يملك مشروعاً وجودياً في شِعره ، مما يجبرنا على التعامل مع هكذا نصوص شعرية باعتبارها ذات بعد إنساني و إبداعي عميق غير مؤقت كباقي النصوص الفورية أو الاستهلاكية . لقد حاول رينيه شار عبر لغته الصعبة أن يجعل النوافذ مفتوحة للجميع في التفكير و البحث الشعري ، بينما حاولت فروغ تحقيق ذلك عبر صمتها الرافض و الثوري .
هذه الشاعرة تُحّمل المتلقي الكثير من الحميمية لأنها لا تتكلف و لا تبتعد عن شجرة ذاتها ، بل تبقى قريبة مما تريد ، وبذا تسمح للقارئ أن يحتضنها بكل دفء إن كان يحمل مثل مقدار صدقها و تلقائيتها . و رغم أنها في مجموعاتها الأولى حاولت ضرب صورة الرجل باعتباره سلطة علية فوق المرأة ، إلا أنها كانت في ديوانها الأخير " لنؤمن ببداية فصل بارد - Let Us Believe in the Dawning of a Cold Season " و الصادر بعد وفاتها تكّون نظرتها الشمولية للواقع البائس الذي يغيب الإنسان في شدة سواده و عمق قسوته . لطالما رأيت الرجل جلاداً صغيراً و هو في ذاته ضحية للجلاد الكبير المسمى بالمجتمع ، وكنت أصل بذلك إلى أن المرأة ضحية للجلادّين . و رغم كل هذا كانت فروغ أكثر رحمة مع جلادها الصغير لأنه أيضاً طرف آخر و مهم في حياتها .
إن لهذه العلاقة العتيقة بين فروغ و العالم من حولها وقع خاص عليها ، مما جعلها تلامسه و تشكله كما تريد ، فتجدها ترسم الموت كذات للكثير من المشاعر السلبية من عبثيته و وقاحته و قسوته . إنها تبدأ من الإيمان إلى العشق ، ثم الفقد وصولاً إلى الموت ، و كأنها تخلق من الموت حالة أساسية أو عنصر مركزي في الوجود الإنساني . إنها بذلك تكشف عن هويتها و تنفض عنها غبار " المُهمَل " ، و تزيح كذلك الستار عن الآخر المقدس .
فروغ من أهم الشخصيات النسائية الإيرانية التي عملت على إعطاء المرأة صورة متساوية تماماً مع الرجل بكامل حقوقها الاجتماعية و العاطفية وغير ذلك ، في وقت كانت فيه إيران تهاجم تحرر المرأة باعتباره نوع من الهوس بالغرب حسب ما يمكن أن نفهمه من كتاب جلال الأحمد " الهوس بالغرب " ، كما نرى الأمر ذاته لدى علي شريعتي الذي يحاول طرح صورة مثالية للمرأة عبر شخصيات نساء مسلمات كنّ أمهات و أخوات وبنات قدمنّ الكثير من التضحيات ، متناسياً أن المثالية هنا كانت متمثلة في جانب التضحية من أجل الذكور ، أي بمعنى آخر العودة إلى نقطة البدء دون تفهم طموح المرأة الإيرانية . إن الوقت الذي خرجت فيه فروغ كان وقتاً حرجاً وعطشاً لتحرك المرأة أمام كل هذه التحديات من قِبل المجتمع ، إن الهجوم على النساء تعدى ليزرع في الشعب الإيراني أن تحرر المرأة مساوي للعهر و اللا أخلاقيات حسب ما طرحه اليسار الإيراني كمواجهة للإمبريالية . كل هذه الأفكار المشوهة طمحت لتلطيخ فروغ كونها شاعرة إباحية فقط ، تبحث عن متعتها و تريد أن تعلن هذه المتعة باسم الحرية متجاهلين صوت الشاعرة في المطالبة باستقلالية شمولية للمرأة و احترام إرادتها الكلية . فروغ رغم نذرها روحها للحبّ لكنها كانت ترى فيه مساحة لقراءة ما هو مخفي و عصي و طامح نحو المزيد من الحرية ، إنها في تحديها ضد كل هذا القمع كانت مدهشة ، فحتى الآن لا يعرف الناقد الإيراني خاصة المحافظ و الرافض للغتها المنطلقة بلا تردد ، لماذا مازال الناس يقبلون على شراء دواوينها المتمردة ! .
في مسيرة فروغ فرخ زاد الشعرية تحول الحب من أجنحة طيران إلى قفص ضيق ، فهي بعد زواجها في سن الـ 16 من شخص تحبه و يكبرها بـ 15 عام اكتشفت أنها فقدت نفسها باعتبارها شاعرة و أصبحت مجرد امرأة تحيطها العتمة و مقسمة بين الزوجة و الأم و كان ذلك واضحاً في ديوانها الأول " الأسيرة - The Captive " الذي يمثل مشاعر هذه المرأة الشابة و المعذبة . و بناءاً على ذلك قررت ترك زوجها و حبيبها و فقدت ابنها الوحيد حسب حكم المحكمة . تعرضت فروغ بسبب هذه الأحداث لاضطهاد نفسي عميق و أصدرت ديوانها " الجدار The Wall -" الذي أهدته بكل تهكم لزوجها السابق " اللطيف " ! وصولاً لديوان " العصيان - Rebellion " الذي كرست فيه روحها لهدم هذا التسلط الذكوري و قد أثبتت عبره جدارتها كشاعرة مهمة و امرأة متمردة شاذة عاصية .. ثم ديوان " ولادة أخرى – Another Birth " و " لنؤمن ببداية فصل بارد Let Us Believe in the Dawning of a Cold Season -" الذي صدر بعد وفاتها .
لم تكتفْ بذلك فقط إنما اهتمت كثيراً بعملها كفنانة سينمائية عُرفت في أوروبا و تم تكريمها من قِبل المنظمات العالمية المعنية بالثقافة و حقوق المرأة ، و صُنعت حولها أفلام قصيرة تكريمية ، كما أتقنت لغات أخرى كالألمانية و الإيطالية و الإنجليزية و درست السينما في إنجلترا ، رغم فشلها في الحصول على الثانوية العامة في إيران .
للخصوصية في القصيدة لدى فروغ شكل مغاير ، فهي بذلك كونت اتجاهاً أدبياً جديداً يعتمد على الانطلاق مما هو شخصي و خاص بالفرد ، و هو ما نلاحظه في التجارب الغربية مثل غي موباسان و ليرمنتوف و جيمس جويس وغيرهم من مبدعين ينطلقون من تجاربهم باعتبارهم أشخاص يملكون صورة الإنسان الحالم . إن في ذلك تغيير كبير فيما تريده الشاعرة للمرأة ، فهي ترغب بتحطيم هذه الرتابة التي تجعل المرأة ذات شكل ثابت مغيب بالمقارنة مع الرجل الذي يحظى بالكثير من الانتصارات التاريخية من قِبل السلطة و المجتمع و الدين ليحصل على كل الحقوق و أهمها الجنسية الجسدية .
الشاعرة بذلك أصبحت نصاً شعرياً مهماً لكل ما هو أحمر ، كونها تعبر عن المرأة بأبعادها العاطفية و الجسدية و تضيف لذلك قدرتها على التحدث بلا قيود و الكشف عن حقيقة الآخر المطهر / الرجل . فروغ تفردت في كشفها للرجل ، خاصة أنها مدافعة قوية عن اختلاط الجنسين ، بذلك استطاعت على عكس غيرها من المبدعات الإيرانيات خاصة السابقات لها أن تأخذ الرجل بصورة واضحة غير مغيبة و غير جزئية . لقد استغلت فروغ شلل الرجل و خجله من التعبير عن عواطفه بأن تحظى هي بهذه الميزة ، الشاعرة هنا تحصد الكثير من الإمتيازات و تكون باللا صمت أداة ضد السلطة بأشكالها ، كما ترفض الاختباء تحت الرمزية و أغطيتها الكثيرة بل تجعل الأمر يسير في طريق واحد و بلا عدة قراءات خاصة في قصائدها الإيروتيكية .
هذا القليل من فروغ فرخ زاد ، هذا القليل من حزنها الذي يرقص عبر قصائدها و يحتفل بشتائه الـ 38 بعد أن وجدت فروغ فرخ زاد ذاتها لتفقدها إلى الأبد .
No comments:
Post a Comment