Pages

Aug 3, 2012

عن نعيم أبو سبعة الذي بعبص التنين

تفتح الرواية، تبدأ بخطاب حب للسيد الرئيس حسني مبارك، ثم تقرأ 8 صفحات عن رجل اسمه نعيم. الصفحات الأولى تأتي مسرحية أو وصفية (يقول الراوي بأن اللغة العربية لغة وصف وليست لغة أفكار)، تشعر بالارتباك، هل تتورط في قراءة رواية لا تعرف طريقها بين السرد والمسرح؟ هل اضطر الروائي لخلق مفارقة فنتازية في شخصية البطل في الفصل الأول الذي أسماه "نفق"؟ كل هذه مجرد تساؤلات شرعية لقارئ يريد أن يضع خطة أولية لقصة نعيم أبو سبعة- تساؤلاتي أنا، إلا أنها اختفت مع الفصل الثاني.
في الحكي، لن يكون نعيم أكثر من رجل في دولة دكتاتورية يحاول التحايل على الدولة. في الحالة العامة، الصفحات الأولى تضع جملة تتكرر بصياغات مختلفة من حين إلى آخر طوال الرواية "هذا ما كان نعيم يخشاه، بعبصوه بعدما كتب كتابه على عطيات، بعبصوه وهو حي عدة مرات، بعبصوه بأشياء غير الأصابع، ويبيعبصونه اليوم وهو ميت". الرواية ليس لها ثيمة واحدة، هي عن الشخصية المصرية، عن البعابيص المصرية، عن البيروقراطية المصرية الشامخة، عن فنتازيا الفساد المصري الذي يغلب أي مخيلة، عن "الدولة العميقة"، وهي قبل كل شيء دليل قد يكون عنوانه "كيف تصبح ديكتاتوراً في 276 صفحة؟".
بعد فصلين قصيرين من الرواية، يعود الرجل المجهول لكتابة خطاباته لرجل الدولة "صلاح". كل الخطابات غير موقعة و"صلاح" غير معّرف. يبدأ كاتب الرسالة بتعريف القائد، صورة القائد، كيف أن القائد ينتهي إذا احتلت رأسه الصلعة. طوال الرواية، يتنقل في الأمثلة والمقارنات بين عبدالناصر والسادات ومبارك، مرات قليلة عن محمد علي. بشكل سريع، تبدأ الرسالة الثانية إلى صلاح بشرح مبسط لعهدي السادات وعبدالناصر، ومن ثم تسهب في الحديث عن مبارك وشعاره الأول والأخير "الاستقرار".
صاحب الرواية محمد ربيع كان قد قال بأنه بدأ العمل على روايته قبل سقوط مبارك، توقف عن العمل لستة أشهر بعد الثورة معتقداً أن لا معنى لنصه، ومن ثم عاد لاستكمال الكتابة. لا أعلم ما الذي كان يدور في عقل ربيع، إلا أنني فسرت الستة أشهر باعتبارها تلك الفترة التي اعتقد فيها المصري بأن مبارك وأطيافه قد رحلوا. قد يكون الروائي احتاج لستة أشهر ليستمع لاسطوانة "الاستقرار" مرة أخرى، ليرى "صلاح" في الوجوه القديمة- الجديدة: الدولة العميقة كتبت لنعيم أبو سبعة الحياة مرة أخرى!
يعمد الروائي على رسم خطين في الرواية، هنالك نعيم أبو سبعة زوج عطيات وأبو وليد والبنتين الذي يحاول تلفيق موته ومحاربة البيروقراطية المصرية للحصول على بوليصة التأمين. شخصية خلابة يطعمها الروائي بغرائبية من حين إلى آخر حتى لا تموت. أما الخط الثاني فيعتمد كلياً على المخاطبات المكتوبة لـ "صلاح" والتي تشرح لنا السياق السياسي والزمني للحكاية. بشكل طبيعي، يجد القارئ مواطناً مسحوقاً وآخر يعمل من أجل الدكتاتور.
فصل "دعارة" الذي لم يتجاوز عدة صفحات كان مبهراً، قصة سريعة عن انتشار الدعارة في مصر محمد علي، كيف أن مصر كانت (ومازالت) تعيش من أجل شيء واحد وهو "الجيش" ولذلك كان هنالك جيش من العاهرات. يترك الروائي الرجل الفتوة يكبر، يتركه ليصبح أباً للجميع، أسطورة شعب بلا أب، تتكرر وتتشابه الأسماء، يكون هو نقطة نهاية وبداية. حكاية نعيم في الفصول الأولى لم تكن مشبعة، تفاصيل جديدة متتالية يحتاج القارئ أن يتآلف معها، يكون فيها، ولذلك تنجح الخطابات الموجهة لصلاح في جذبك وجعلك تنتظر المزيد منها: تفكيك الديكتاتورية وشعور القارئ الديمقراطي بالرضا عن نفسه، بالذكاء، إيماناً منه بأن خًدع الدولة لم تنتصر عليه.
الأهم في تلك الخطابات أنها تبدأ قوية، تقول لمبارك (والرواية لا تشير إلى ثورة يناير) أن يتفادى الأخطاء الغبية: الوضوح، المباشرة، الإدعاء، بينما كل ما يحتاجه أن يبقى غامضاً وأن يضحم أعدائه ويتركهم بلا ملامح في مخيلة المصري. الخطابات تصبح أحياناً مكاناً لتفريغ النقد الاجتماعي: كيف يهرب المصري من مواجهة الدولة.. كيف يبحث بشغف عن أفخاخ السلطة ليقع فيها ويغمض عينيه مرتاحاً. الخطابات تؤكد بأن "لكل مواطن مصري ملف يحوي معلومات عنه، موجود في مكان ما في مصر" وبأن "الخوف يا عزيزي هو الحل".
بعد ثلث الرواية، يكتب ربيع فصلاً بعنوان "معرّص" يسرد فيه أصل هذه الكلمة المصرية الشهيرة، كيف كانت تعني "التشييد والبناء" وكيف تحولت منذ العصر الفاطمي لتصف اثنين هما "القواد ومؤيد الحكام". في الفيديو التالي، يقرأ محمد من روايته معنى كلمة "معرص":  

بعدها مباشرة، يأتي خطاباً قوياً، هذه المرة عن المثقفين. باختصار شديد، عن المثقفين الذين عرف السادات تهمشيهم وجعل المصري ينظر لهم باحتقار. تلك الصورة النمطية التي نشاهدها في أفلام عادل إمام. السادات استغل طريقتين لإقصاء المثقف المصري: حب المصري للسخرية ورغبة المصري في عدم الشعور بتفوق الآخر عليه. "التريقة" الساداتية قتلت النخبة، النخبة التي كان بإمكانها أن تنقذ القليل، إلا أن الرغبة العامة بسقوط الهرمية الاجتماعية كانت الغالب. الروائي، بطبيعة الحال، لا يترك مصطلح المثقف فضفاضاً بل يشرحه ويمر سريعاً بقضية الرقابة التي لطالما سرقت المثقف من همه الأكبر: الصراع المباشر ضد الديكتاتورية. كان جديداً بالنسبة لي أن أرى نصاً يتطرق لقضية المثقف من هذه الزاوية خاصة وأن الحالة المسيطرة لا تملك سوى النقد والتهكم للمثقفين باعتبارهم سلبيين ومنفصلين عن الواقع.
بعد ذلك، لا يبذل كاتب الخطابات المزيد من الجهد، يستسلم لحالة العبودية السائدة، يشير لكلمة "العيش" والتي تعني الخبز باللهجة المصرية.. يتعجب "تخيل يا صلاح، أن يقرن الشعب أحد أصناف الطعام بالحياة ذاتها.. شعب كسول كهذا لن يختار الديمقراطية" ويضيف "رغيف الخبز هو مفتاح حكم المصريين.. فكرة الفرعون المعبود يجب أن تظل حاضرة في أذهان المصريين إلى الأبد".
بعد منتصف الرواية، يتغير الكثير. يدخل القارئ في شخصية نعيم أكثر، بعالمه الغرائبي، بحياته المسحوقة التي لا تثير تعاطفك، بتنقلاته المختلفة، بالخط الفاصل المبهم بين الواقع والخيال.. بعدها لا تريد أن تقرأ المزيد من الخطابات. تصبح مباشرة، مكررة، تخطفك مراراً إلى حوار سياسي مللته خاصة حينما يقوم الروائي (لأسباب تتضح في النهاية) بالتطرق لمحمد حسنين هيكل وفكرة الكاتب- الكاتب الشريك في السلطة وسحر الألفين كلمة! الخطابات تصبح متعبة فيما عدا الخطاب الذي يتحدث عن إضراب المحلة وقد يكون تفضيلي الشخصي لهذا الخطاب يعود لمعايشة جيلنا لتلك الأحداث التي أسميناها بلا تردد "ثورة". 
 

 تدريجياً، قصص نعيم تقل وتستبدل بأفكاره وهواجسه.. النهايات شارفت.. المزيد من الخطابات تُكتب.. شعرت باستفزاز. أردت أن لا تذهب القصة بذلك الاتجاه، أردت أن لا تكبر الخطابات عن كونها مجرد إطار تعريفي، أردت لنعيم أي يبقى "كبيرنا الذي علمنا السحر" وأردت فوق كل شيء أن لا أرى مبارك مباشرة، فهو في كل شيء ولا أحتاجه. الروائي أراد أن يصعد بسخطه من الشخصية المصرية وعبادتها للدكتاتور. التصاعد كان متعباً وسريعاً بالنسبة لي. لم يكن مهماً مبارك، لم يكن مهماً أن تظهر الحقيقة "كوضوح الشمس" كان يهمني حقاً أن أرى تجليات نعيم في ميتاته وحيواته. الفكرة السياسية لدى الروائي انتصرت على الفكرة السردية: الروائي غاضب، الروائي شعر بأنه عليه أن يقول للمصري بأن الصنم لم يسقط بعد الثورة، الروائي لم يستطع أن يراهن أكثر على نعيم. في الحقيقة، الروائي استخدم صورته كصورة لنعيم. الروائي قتل ذاته في النهاية.

No comments:

Post a Comment