جالسة على أريكة خضراء في شقة بروكلينية باتت الآن موبوءة ببقّ الفراش، أدركتُ فجأة أن موعد رحلة طيراني للقاء عائلتي لأول مرة منذ خمس سنوات كان الليلة، وليس غداً؛ أي 12:30 بعد منتصف الليل، وليس 12:30 وقت الظهيرة. كنت قد خططت للاستيقاظ مبكراً في الصباح، أحضر فُنجاني قهوة، قبل ملئ حقيبتي الصغيرة بالقليل من الهدايا التي تمكنت من شرائها لإخوتي في آخر لحظة. ظننت أن لدي المزيد من الساعات كي أجلس مع ذاك الشعور الثقيل، الذي حسبته مزيجاً من الانفعال والشوق، ولكنه كان في الحقيقة مزيجاً من القلق والخوف – الخوفُ من أن تسير الأمور على غير ما يرام؛ الخوف من لقاءات لا يمكن لأحد أن يحضّر نفسه لها.
أمام الأريكة طربيزة مدورة، حُمت حولها بذعر، غير متأكدة من قدرتي على الوصول إلى مطار جون إف كينيدي في الوقت المناسب، أو إلى كييف، أو إلى تبليسي. على مر شهور، كنت قد جمعت أنا وأختي مبلغاً لكي نتمكن من الذهاب في رحلة لم الشمل تلك التي ستدوم أسبوعاً، في بلدٍ لا نعرف عنه أي شيء. بعد شهورٍ قليلة من وصولي إلى الولايات المتحدة، رفض الكويتيون طلب تجديد وثيقة السفر، فصرتُ بذلك لاجئة. قوبلت محاولاتُ عائلتي للحصول على فيزا أمريكية بالرفض المتكرر أيضاً؛ لذا بحثنا عن خطط بديلة. اتصلنا بالسفارات كل صباح، في الولايات المتحدة وفي الكويت. سألتُ، «هل تقبلون وثيقة سفر لاجئ من إصدار الولايات المتحدة الأمريكية؟ كم يستغرق إصدار تأشيرة السفر؟» أما هم فسألوا «هل تقبلون وثيقة سفر «بدون»؟ كم يستغرق إصدار تأشيرة السفر؟» وكانت جورجيا هي الدولة الأسهلُ للطرفين، المكان الذي أعاد العرب استكشافه خلال السنوات القليلة الماضية، هذه المرة ليس بصفتهم فاتحين، وإنما لاجئين مارّين، يطمحون للتسلل إلى القارة الأوروبية من جانبها الشرقيّ.
غادرتُ الكويت في شهر أغسطس / آب عام 2011، وكان ذلك أفضل وقت لمغادرة الكويت، حيث درجة الحرارة 120 فهرنهايت (48.8 مئوية). كنت متيقنة من أنني على الأغلب لن أرجع في أي وقت قريب. كان حلم مغادرتي لهذه البلاد قديماً قِدَم جسدي. لطالما كنت مسحورة باحتمالات الأماكن الأخرى، يغلبني شعور الملل والتبلد من مسقط رأسي؛ وفوق كل شيء تعبت من كوني بدون جنسية، ومن دولة عمرها أصغر من عمر أبي تتهمني مراراً أنني لا أنتمي أو أنني لست «أصيلة» كفاية. لا أعرف النوم في الطائرات، ولا حتى عند استقلال الحافلات؛ شيءٌ ما في حضور الآخرين يقضّ مضجعي. قضيتُ الساعات أضع لمسات أخيرة على مشروع ترجمة كلفتني به امرأة بيضاء حاولَت ألّا تدفع أتعابي بحجة أنها تمنحني «فرصة الظهور في المشهد الأدبي الأمريكي». امرأة بيضاء لا نفوذ لها حتى في هذا المشهد. انتبهتُ إلى جيراني الجالسين بالقرب مني، وكانوا أماً وثلاثة أطفال، عندما سمعتهم يتحدثون بالعربية. طرحنا على بعض السؤال الذي عادة ما نطرحه قبل السؤال عن الاسم. أجاب ابنها، المولود في باي ريدج بروكلين، «نحن فلسطينيون».
عند وصولنا إلى كييف، تم تفتيشنا أنا والفلسطينيين بدقة، وراح الولد ذو الاثني عشر عاماً يلقي دعابات «عنّا»، وعن كوننا «نحن» من يؤخر الطوابير، ومن يجعل الحشود تتأفف وتتململ. سلبَ الأوكرانيون مني مقصاً صغيراً وملقط شعر كان حاجباي بأمس الحاجة إليه. شعرتُ بالإحباط ولجأت إلى السخرية، فصرت أجيب عن كل سؤال بسؤال – لا أعرف... لأن... أنتم تعرفون... لماذا... هل يجب عليّ ذلك؟ كانت هذه من جملة أساليب التكيّف التي اكتسبتها في رحلاتي من مطار إلى مطار، كبديل عن الابتسام في وجه من يقوم بتفتيشك واذلالك. يفاجئهم سلوكي هذا ويجبرهم أحياناً على اللجوء إلى استدعاء مدرائهم، للتعامل مع امرأة تتحدث مثل أمريكية متسلطة، لكنها ليست بأمريكية. ذاك اليوم، مثل بقية الأيام، رفضتُ أن أجيب عن أسئلة من قبيل، لماذا أنا بدون جنسية، أو لماذا أملك وثيقة سفر لاجئ. تمسّكت بسلوكي المعاند وفكّرت، حتى الأوكرانيّين. ففي العام السابق، قامت روسيا باحتلال أوكرانيا، مما يدفع المرء على الظن بأن لدى الأوكرانيين أشياء أجدر بالقلق. طلبتُ أن تؤخذ صورة لنا، أنا والفلسطينيين. صوَّرتنا الأم، واتخذنا – أنا والأطفال – وضعيات مختلفة، نرفع أيادينا في علامات لا نستطيع فك شِفراتها.
عائلتي أقل خبرة في التعامل مع المطارات، وقد مثّلت مسؤولية إدارة خمستهم بالإضافة إلى أمي حملاً ثقيلاً على كاهل أختي. كانوا متحمسين لرؤيتي، و أيضاً للخروج من الكويت. غذّوا حماسهم بالقهوة والشوكولاتة والمقرمشات غير الصحّية. أما أبي، ذو الإعاقة والمهدد على الدوام بفقدان وظيفته، قرّر ألّا يرافقهم وأن يظل في الكويت بصحبة أخي. انتابني شعور بأنه كان مرعوباً من لقائي بعد كل هذه السنوات، أو ربما آثر ألّا يثقلنا بحمل حركته. قال لي، «المرة الجاية انشالله» وأومأتُ أنا على الطرف الآخر من الخط.
وصلتُ قبل يوم من الموعد المحدد في تبليسي، لكي أتأكد من المكان الذي استأجرته، ولكي أتأكد مما لو كان عليّ ترتيب أمور مواصلات العائلة أو شراء بعض الحاجيات، أو إبريق شاي ربما. لم أكن أعرف أن هذا البلد السوفيتي لا علاقة له بالإنكليزية، وأنه أقرب بقليلٍ إلى العربية. اعتمدتُ على الإيماءات باليد، أدفع خرائط غوغل في أوجه الآخرين أسألهم، «هذا كيف؟ هذا أين؟» ضّبَت أمي ثيابها مع ثياب أختي واستخدمت حقيبتها الشخصية لتحزم كل المكونات الرئيسية لأطباقي المفضلة. وبالفعل حضّرت في كل يوم من أيام ذلك الأسبوع الذي قضيناه في تبليسي طبقاً جديداً لي. تساءلتُ أحياناً ما إذا كان طبخها جيداً بالأصل، أم أنها قد فقدت مهارتها مع التقدم في العمر. وفي كل مرة كنت أنهي طبقي، تسألني عمّا يجب أن تطبخ في اليوم التالي، وكنت أجيبْ، كي أثبت لها أنني ما زلت أتذكر، وأنني ما زلت أشتاق إلى أكلاتها.
خلال لمّ شملنا ذاك، أي خلال الأسبوع الذي قضيناه سوية رغم نقصنا، لاحظَت عائلتي وحدتي وقلقي، ورأت ما فعلته هذه المشاعر بي؛ كيف تطفلت على وقتنا سوية، وكيف لم أستطع النوم في حضورهم. أنا البنت الأكبر من بين سبعة لطالما ناموا سوية وعلى نفس الأرض متجانبين، وقد كنتُ أحياناً الأخت الشجاعة التي تقترح أن نتلاصق بعضنا البعض، تحت لحافٍ واحد، لنشاهد التلفاز من دون صوت بعد منتصف الليل، في ليالي الأسابيع المدرسية، بينما ينام والدانا. في نهاية الرحلة، توجه إليّ أخي بالكلام قائلاً، «لا تدعي الأجانب يُنسونك نفسك... تقضين كل وقتك تعملين، تعملين، تعملين...»
«من هم البدون؟» هو سؤالٌ سأعاني على الدوام في الرد عليه – كيف تُعرّفُ شخصاً بالنفي؟ إن لدى الأشخاصِ والمجتمعاتِ بدون الجنسية في منطقة الخليج حكايات ورحلات متنوعة، ولكنهم جميعاً باتوا بلا جنسية نتيجة عنفِ ولادة الدولة. في الستينات، تم توظيف جدي الأمّي من قبل البريطانيين ليعمل في حقول النفط، قبل أن يتم استبداله بعمالة أرخص، حتى وجد نفسه في قلب الحياة المدنية، يحضّر القهوة والشاي في كافتيريات المكاتب البيروقراطية حديثة البناء. حتى اندلاع حرب الخليج الثانية، لم تكن حياة البدونِ صعبة تماماً. فقد كان بالإمكان الحصول على التعليم والرعاية الصحية وفرص العمل و«جواز سفر خاص،» أيْ باختصار، الحقوق الأساسية التي لم يتمتع بها إلا جيل والدي. ولكن البدون تحولوا بعد الحرب، مثلهم مثل الفلسطينيين والعراقيين، إلى عدو جديد، وصارت دولة الكويت تتهمهم بالعمالة وبكونهم مرتزقة، قبل أن تقوم بتهجيرهم بشكل جماعي. وفي السنوات التي أعقبت الحرب، انخفضت أعداد البدون في الكويت إلى النصف، من 250 ألف إلى 125 ألف، في بلد لم يتجاوز عدد سكانه في ذلك الوقت المليونَي شخص.
نشأ جيلي في بيئة من الخوف والوصم، مدفوعاً إلى ضرورة التمويه عن الذات، ألا تصدر عن الواحد أي كلمة قد لا يكون صوتها أصيلاً بالنسبة إلى المواطن الكويتيّ. لطالما كان الحديث عن كونِ المرء من البدون ضرباً من المحرّمات، إلى أن بدأنا بالتنظيم السياسي في عام 2011. خلال العقود الثلاثة الماضية، قامت الدولة بتزييف سجلات البدون، مزيلة أسماء قبائلهم كي تمحوا أنسابهم وصلاتهم، ومهَرت وثائقهم بكلمة «استثنائي» بعد أن طبعتها على ورقٍ رديء فاقع اللون، بحيث يسهل على عيون الدولة التعرف عليك كلّما أخرجتَ هويتك. حُرمنا بشكل ممنهج من الحصول على التعليم، والرعاية الصحية، والوظائف الرسمية، وعقود الزواج، والتمثيل القانوني، من بين أشياء أخرى كثيرة. حتى جواز السفر مادة (17)، الذي يحتاجه أبناء البدون لكي يعبروا الحدود، لا يُمنح إلا حسب الحالة، إما لإقامة الحج أو الحصول على العلاج في الخارج. ومثل الكثيرين من العرب، اضطُر البدون للارتجال والابداع في الحصول على جوازات السفر وتأشيرات الدخول، أملاً بالوصول إلى جنات الغرب. وعلى صفحة البيانات الشخصية في جواز السفر، يُكتب في خانة الجنسية: غير محدد. اليوم، تتواجد أكبر تجمعات البدون في الشتات في كندا والمملكة المتحدة. وصارت حكايات الأقارب والجيران والأصدقاء الذين تعرضوا للسجن بسبب محاولتهم عبور الحدود إلى جورجيا، والمغرب، وتركيا، بل وحتى المكسيك، من الأمور الشائعة؛ ففي الكثير من الحالات، يتم ترحيل الواحد إلى الكويت، وزجّه في السجن بسبب الدخول أو الخروج بشكل غير قانوني.
ازداد حُلمي بمغادرة الكويت إلحاحاً عندما سمعت عن خال لي وصل إلى الدنمارك، بعدما نجا من أقبية التعذيب الكويتية في الأيام التي تلت حرب الخليج، ثم نُفي إلى العراق التي سرعان ما خضعت للعقوبات، قبل أن يشقّ طريقه بعد سنوات إلى كوبنهاغن عن طريق مسار ترحال اعجازي لا يعرف إلا العراقيون كيفية قطعه. وجدتُ الدنمارك على الخريطة، في أقصى شمال الكوكب، وبدت المسافة التي تفصلني عنها مثيرة ومحالة. أخبرت إخوتي عن الخطة، وقلتُ لهم إن بإمكان المرء هناك أن يتصل برقم 911 ويشتكي على أهله إن ضربوه، فاقتنعوا سريعاً بالفكرة. في بداية الألفينات، كانت الحكومة الكويتية قد سمحت لسوق سوداء من جوازات السفر بالازدهار، وانتشرت الإعلانات في الجرائد من قبيل، «جوازات سفر للبيع من إريتريا، ألبانيا، الدومينيكان، وبوليفيا. نظيفة ورسمية. اتصلوا على: 765–4321». وبالقرب منها إعلانات هجرة: «نحن نساعدك للوصول إلى أستراليا: دراسة مجانية، رعاية صحية مجانية – ابدأ حياة جديدة اليوم!» أو «تعالَ إلى كندا، وطنك الجديد.» جميعها تستعمل أهم الكلمات التي ننشدها: حقوق أساسية وبلد نقيم فيه. بدا كل شيء وقتها على مسافة مكالمة هاتفية. فتح رجال بِيضٌ مكاتب مزيفة بتسعيرة 150 دولاراً على جلسة الاستشارة الواحدة. لم نشكّ بالرجلٍ الأبيض وقتها؛ فهم المنقذون في كل الأفلام، ونحن نبحث عمن ينقذنا. جلس اثنان منهما وراء مكتب كبير يتهامسان وكأن حياتنا تعتمد على حكمهما النهائي. وبعد ثلاث جلسات توصّلا إلى قرار: «أنتِ يمكن أن نأخذك، أما عائلتكِ: ليس ممكن». يَئِست عائلتي من فكرة الهجرة، أما أنا فلم أيأس. فبعدها بسنوات غادرتُ الكويت بتأشيرة طالب، بعدما تم قبولي في برنامج خريجين في شمال ولاية نيويورك.
تتذكر أمي رحيلي بالحركة البطيئة، وبالتفصيل الممل. أما أنا فأتذكر الرحيل برؤوس أقلام، وباختصار سريع. تتذكر هي العناقات الرطبة والاستدارة بعد المرور من كل مدخل؛ تتذكر من كان متواجداً، ومن لم يكن. توفر لديها كل الوقت لكي تمعن التفكير في الذكريات، وقد أتقنت عبر السنين دور المتروكة بالوراء. كأنما الألم بحد ذاته هو كل ما يتبقى لنا بعد رحيل أحبتنا، من دونه لا يمكنك استدعاؤهم إلى الحياة، عبر الفسحة الهائلة للزمان والمكان. أخبرتني أمي في مكالمة هاتفية مرة، «أنتِ تركتني مثلما تركَتني أمي قبلكِ؛ والآن صرتُ أعرف هذا الشعور من الجهتين.»
ما لا تأتي أمي على ذكره هو كيف حصل فقدُها الأول، الفقدُ الذي شكل فيما بعد إحدى أولى ذكريات طفولتي: عندما أُجبِرَ أفراد عائلتها على حزم أمتعتهم ووضعها فوق أسطح السيارات؛ متروكين على الحدود، مرحلين أو منفيين إلى جنوب العراق. أذكر وجوههم؛ نفسُ العناقات المتعرقة التي أخذتها معي إلى نيويورك؛ النساء ينُحن، والرجال صامتون، وقد أوصدت أبواب حيوات بأكملها في وجوههم. أخذوا مفاتيحهم تذكاراتٍ وتركوا الأبواب مشرعة وراءهم. كنت أقاطع نواحَهم أسأل أمي، لِماذا تبكون – ألن يعودوا؟ فقالت، نعم، سيرجعون. وقالت خالتي، نعم، سنرجع، ولكنني لم أرهم بعد ذلك قط. كنتُ في الخامسة من عمري تقريباً، وكان لدي شعورٌ بأنها كذبة، لكني مجبرة على تصديق إجابتهم الوحيدة. واستمرّيت بالتصديق حتى نسيت أن أصدق. استمرّت أمي برثاء ذلك الرحيل. كل أغنية حب بالنسبة لها هي أغنية مهداة لعائلتها ولأمها، التي كانت امرأة صلفة لكنها رفيقتها الوحيدة. خبّأتُ تلك الذكرى في أكثر أركان وعيي عتمة. وكلما خطرت على بالي، ظهرَت مثل صورة: وجهان يبكيان، أمي وأختها، التطمينات الكاذبة. لا يسعني أن أجابه هذه الذكرى على ما هي عليه حقاً: عائلة بُتِرت إلى نصفين – أولئك الذين غادروا، وأولئك الذين تُرِكوا.
تكرّر مشهد أساطيل السيارات المغادرة هذا لثلاث سنوات أخرى بعد حرب الخليج. يخرج الجيران خارج بيوتهم، يلوحون بأيديهم، يقترضون وداعات جديدة لتخليد وداعاتهم القديمة. أذكر اللحظات التي تلت مغادرتهم، عندما رجعت أمي إلى داخل بيت عائلتها الفارغ لكي تستكمل الوداع. لم تكف عن النواح والبكاء. لم تكترث بإرعابنا، فنحن أطفالها وشهودها الوحيدين. بكينا كلما بكَت، حتى ونحن نسألها عن سبب البكاء. أما هي فكانت تجوب الأطلال، هائمة من غرفة لغرفة. لم أرَ منزل عائلة أمي فارغاً من قبل، لا من الناس أو الأشياء. لم يكن جدي هناك يأخذ قيلولة؛ لم تكن جدتي تنز عرقاً وترتشف من شايها؛ ولم يتواجد خالي مع زوجتيه المتناحرتَين، ولا أبناؤهم يلعبون أو يتخانقون؛ وكان المطبخ خالياً من كل ضجة أو رائحة. صرنا المتروكين وراءً، وبات حزننا يحلّ محل الغائبين والغائبات.
لم يصلنا خبرٌ من عائلة أمي لسنوات، فقد فرضَت الولايات المتحدة والكويت وحلفاؤهما عقوبات على العراق. مات العراقيون من الجوع وقلة الدواء. صار العراق كناية عن عائلة أمي؛ أيّ شيء يحدث هناك كان شيئاً يحدث لهم. وقبل أن تدخل كاميرات الفيديو المنزلية الأسواق، كانت عائلة أمي ترسل تسجيلات صوتية على أشرطة الكاسيت، تصلنا عن طريق بريدٍ يرسله قريب ما عبر الأردن. يأتينا الصوت المُسجّل «سلام. أنا نجاة، أختكِ. شلونج حبيبتي؟ شلونكم؟ إن شاء الله بخير، «قبل أن يختنق الصوت بالدموع. «شلون فلان؟ وشلون فلانة؟ أمي بخير – حنا بخير – بس مشتاقيلكم والله.» تملأ الأكاذيب المساحات الفارغة من النص. تسمعُ أمي هذه الشرائط مراراً، كلّما احتاجت إلى البكاء. كنت أحسبها مازوخية، تهوى لكز جروحها. بعدها صارت تصلنا شرائط الفيديو: ها هُم، الهياكل العظمية العراقية، متشحة دوماً بالسواد، يغلبها التوتر أمام عدسة الكاميرا. ينظرون إلى الفراغ ويلقون السلام، ثم يسألون عن أحوال من يتذكرون، ويكتفون بالتعليق على سلامة حالهم. تنهمر دموعهم، يشيحون أنظارهم عن الكاميرا، يحدقون بالأرض، ويخبئون أعينهم ووجوههم. بعد سنوات طويلة، عندما صارت فيديوهات الرهائن الأمريكية تُعرض على التلفاز، انتابني إحساس مرعب بأنهم يشبهون أناساً رأيتهم من قبل. على الضفة الأخرى من أشرطة الفيديو، جلسنا نحن نتحدث إلى شاشة التلفاز؛ وكلما ظهر وجه جديد، قُلنا اسم صاحبه بصوتٍ عالٍ، توكيداً لتذكرنا إياه؛ وكلما بكي أحد منهم شاركناه البكاء، أو ربما بكينا قبله. كنا نراهم من خلال أحزاننا، نراهم يكبرون، وينحفون، ويفقدون ألقهم. بكينا على الوقت المبدد. نحيي ذكراهم، نحيي ذكرى وجودنا سوية، نحيي شوقاً لم يتحقق مناه.
تعامل إخوتي مع رحلة لمّ شملنا في تبليسي باعتبارها إجازة. لم ألمهم، فأغلبهم لم يغادر الكويت من قبل. كنا نستيقظ كل صباح ونتناول الفطور، ثم نشرب القهوة السريعة أو شاي ليبتون، نتناوب على الحمام، لنخرج بعدئذ إلى المدينة القديمة، من دون وجهة محددة. لم تكن مشاوير التمشي جزءاً من ثقافتنا، نحن الذين أتينا من مدن البترول الحارة؛ حيث لا يجرؤ إلا أكثرنا فقراً على المشي في الحر الجاف. أما شوارع تبليسي فكانت باردة، فيها جاداتٌ طويلة ومحطات مترو الأنفاق، ولم تكن السيارات منتشرة فيها لدرجة تلوّث الهواء. جربنا الأكل الجورجيّ، ولكن طعمه كان بدائياً بالنسبة لنا – من دون لحمة أو بهارات كافية. لذلك داومنا على الأكل في المطاعم العربية أو الهندية، ولم نكف عن مقارنة الفروق بين هنا وهناك. زُرنا قلعة ناريكالا، وأخذنا الترامواي الهوائي، وقضينا الليالي على سفح تلة تطل على بحيرة اصطناعية، أو على بلكونة الشقة التي استأجرناها.
كان إخوتي، في الساعات التي قضيناها سوية في الشقة، يتحلقون حولنا أنا وأمي. لم نتحدث عن حياتي في الولايات المتحدة إلا ما ندر. كأنما نتشارك اعتقاداً مفاده أنني أنا الراحلة والمختفية، وأن كل القصص التي تستحق السرد تتمحور عمّا حصل في غيابي. قصصٌ عن أولاد خالاتي أو أعمامي الذين تزوجوا، أو تطلقوا، وكم طفلاً من العائلة سيكبر من دون أن يعلم بوجودي. هناك قصص صديقاتُ أيام الثانوية، اللواتي واظبن على زيارة أمي في كل فترة وسؤالها عن حالي. على عكس أمي، صاحبة الواجب ومحبوبة الناس، قضيتُ أولى سنوات منفاي وأنا أحاول دفن الماضي. كان لدي تصوّر بأن الماضي سيثقل كاهلي، وأني لا أملك مساحة كافية لتحمله وتحمل حضور غياب عائلتي. تركت أحبتي وأصدقائي يختفون واحداً إثر الآخر، مرهقين كنا بفعل فارق التوقيت وسؤال عودتي المحتملة. تعذّبوا وهم يحاولون الفكاك مني، فأجبرتهم على ذلك عبر التخلي عنهم بنفسي.
في أحاديثنا وذكرياتنا المتبادلة في تبليسي، أدركتُ كم تراكمت الغبرة على حياتي في الكويت، أو كما صغتُ الأمر في إحدى قصائدي، كيف تقف حياتي «في المنتصف كتمثال». لم أعرف كيف يمكن ربط ذلك الماضي بهذا الحاضر، وكيف أسمح له بالاستمرار في منفاي، وأحافظ عليه في نفس الوقت من أي تغيير. أدرك الآن أن هذه الفكرة، أو هذه المزقَة الحاصلة في الزمان والمكان والذاكرة واللغة، هي شعورٌ مشترك لدى المهاجرين الذين لا يستطيعون الاستمرار وحسب في مختلف أصقاعِ الجغرافيا. هؤلاء يعيدون خلق أنفسهم، متخلين عن ألسنتهم القديمة، يشكّلون في بعض الأحيان عائلاتٍ جديدة تماماً، بل وينزفون دماً جديداً أيضاً. مع ذلك كان من الواضح بالنسبة لي أن عائلتي اعتبرت حياتي في المنفى مسألة مؤقتة. كانوا بحاجة إلى تصديق مثل هذه الكذبة، وتخيّل عودةٍ تحدث في المستقبل البعيد. لم يتأثر إخوتي بفعل غيابي كما حصل مع أمي، فهم في صحبة بعضهم البعض، ولدى كل منهم شبابه والأصدقاء والمستقبل.
أما أمّي، نجّارة الماضي، فوصفت غيابي بالبَتر. كنتُ كبرى أطفالها، وأولى التجارب في حياتها. وجودي ملأ الفراغ الذي خلفته أمها الغائبة. كنت علاوة على ذلك شاهدة على كل أفراحها وأتراحها. كان حبي لها شيئاً ضرورياً لبقائها، ودرعاً يقيها من فقدان عائلتها، ومن أبي. تعتقد أمي أن وجودي في العائلة يعادِل ميزان القوى بينها وبين أبي. والآن، صرتُ أنا كل ما طمحت لأن تكونه هي ولم يُسمح لها بتحقيقه – أي متعلّمة ومستقلة مادياً، امرأة لا يمتلكها رجل. في تبليسي، تحدثنا أنا وأمي لأول مرة عن مشهد نفي عائلتها. لخصت لها القصة بسرعة، برؤوس الأقلام، كما أفعل عادة مع الذكريات المؤلمة، لكني شعرتُ وكأنني قبضتُ على ذبابة تطير في الهواء. وكأنما أقول، ها هي! بعد كل هذه السنين، ها قد تمكنتُ من القبض عليها ووضعها على الطاولة أمام أمي، لأطرح السؤال: أيمكننا أن نتحدث عن هذا الحدث؟
لطالما تحدثت أمي عن رحيل عائلتها وغيابهم. دائماً وأبداً. ولكنها لم تأتِ على ذكر يوم مغادرتهم أو أيّ من تفاصيله. هناك تفاصيل قامت بدفنها؛ مثلاً، أنها أخذتنا مع أختَيها لالتقاط صورة جماعية لنا عند المصور، في الليلة السابقة على الرحيل، وأنني كنتُ هناك ولم أنسَ. أخبرتها كيف عاد إلي ذاك المشهد، بعدما قضيت بضعة سنوات في نيويورك، وكيف أن انفصال عائلتي لم يكن بالأمر الاستثنائي، بل أني بالأحرى أحافظ على تقليد عنهم. تحدثنا لساعات عن السنوات التي تلت حرب الخليج، عن كل الموتى الذين لم تستطع حضور جنازاتهم، وعن الترحيلات الجماعية التي حصلت بحق البدون، والتي جعلتها تظن أن ألمها ليس ألماً فردياً أو مميزاً، وأنه لا يعدو كونه تحصيل حاصل، أو حدثاً تاريخياً مؤسفاً. قد يعترينا الغضب حالما نتوقف عن التفكير بهذه الطريقة، والغضبُ ليس شيئاً بوسع الخائفين الخوض فيه.
بعد ثلاث سنوات من وصولي إلى بلدي الجديد، حصلت أخيراً على مقابلة اللجوء. ولأنني كنت ما أزال جاهلة بجغرافيا الولايات المتحدة، أو ربما مرعوبة من ضحك القدر عليّ، قررت النوم في غرفة في نزل قريب من مكتب الهجرة، بدلاً من أن آخذ باص الصباح من المحطة الرئيسية في مانهاتن إلى تلك البلدة الواقعة في نيوجيرسي، والتي تبعد مسافة ثلاثين دقيقة فحسب. مشيتُ من النزل وإلى مكتب الهجرة، على حافة طريق سريع، وكلي أمل أن أحصل على كوب قهوة في مكان ما، قبل أن ألتقي بالشخص الذي سيحدد مسار حياتي وبمحامٍ لم أقابله إلا على الهاتف. قبل الوصول إلى المدخل، ينبغي عليك اجتياز موقف سيارات أوسعَ مساحة مما قد يحتاجه كل موظفي المكتب وزوّاره. رواقُ المدخل نظيف وبرّاق، بفضل أشباح عمّال النظافة، والإنارة بيضاء وقوية، وكأنما تكشف عن حقيقتنا. خرجت من المصعد وأنا خائفة من كوني قد ارتكبت خطأ ما، أنني قد نسيت ورقة أو فوتُّ خطوة أو توجيهاً ما. فحصَنا الشرطيّ جميعاً، مبدياً استعداده لاحتجازنا، وتحدث معنا بإنكليزية بطيئة جداً: يرجى، ترك، الهاتف، في، الصندوق، مفهوم؟ وهو يعلكُ علكته.
وجدنا أنفسنا في جزيرة من الكراسي تحيط بها المكاتب والفواصل الجدارية. لم تكن أيّ من النوافذ الزجاجية مفتوحة لكي تكشف عمّا ينتظرنا في الجهة الأخرى. لاحظتُ أنني أنا ورجلٌ سوري مسن كنا الوحيدَين اللذَين ليسا قبطيين من مصر. محاميّ، أيضاً، كان قبطياً من مصر – فنيوجيرسي في آخر الأمر حارة من حارات القاهرة.
خلال ساعتَي الانتظار، راجعتُ قصة حياتي في رأسي، مراراً وتكراراً، وكأنها حياة شخصٍ آخر، أو كأنني قد أخلط بينها وبين حياة الشخص الجالس صوبي. فاحَت منا رائحة الخوف والشك والتعب. صوبت نظراتي إلى بورتريه باراك أوباما بين الحين والآخر، وهو محاط بموظفي الأمن الطليان والإيرلنديين. ما زلت أذكر وجه موظفة اللجوء التي قابلتني، بشعرها الأشقر الطويل، ومظهرها الذي يذكّر المرء بنسوة الضواحي العالقات في حقبة الثمانينات، ومكتبها المليء بمجسمات ولادة المسيح. هل كان القصد من هذه المجسمات بث الراحة في نفوس الأقباط أم إخافة المسلمين؟ ذاك سؤال لم أجد إجابة له. انقضت ساعتان من الأسئلة والأجوبة، والموظفة تطبعُ على كومبيوتر قديم أغلب الوقت. بعد انتهاء المقابلة، استعدتُ موبايلي، وأخرجت سيكارة وأنا في المصعد الذي سيعيدني إلى كوكب الأرض. دخّنت بأصابع مرتجفة، شاقة طريقي عبر صحراء مواقف السيارات.
كان عليّ، بصفتي لاجئة، أن أدرّب نفسي على الترقب بحكمة، وألّا أدع الآمال تحكمني – سواء عند فتح البريد، أو عند الاتصال بمكتب اللجوء، أو عندما يتوجب عليّ شرح موقفي وسبب وجودي. بعد كل محاولة، كان شرحي يزداد اقتضاباً. إن إغفال التفاصيل يتطلب كبحاً للذات، لكنه يوفّر عناء تحوّلك إلى شيء يلوكه الفضوليون والقلقون. مرة اقترحَ علي أحدهم أن نرسل عريضة إلى عضو كونغرس لطلب المساعدة. وقال لي، بغرض التشجيع: «احتجنا ذات مرة لأن نقوم بإزالة شجرة من زاوية إحدى الشوارع، ولم يستجب أحد إلى مطلبنا، فذهبنا إلى مكتب رجل الكونغرس، وكان هناك عددٌ كافٍ منا، مما اضطره إلى إزالة الشجرة...».
قبل المقابلة تلك، كنت قد غيّرت عنواني سبع مرات. قضيتُ أول شهرٍ لي في شمال ولاية نيويورك، في بلدة ريفية عشتُ فيها بصحبة لاجئين عراقيين وبوسنيين وأكراد، ثم ضربها إعصار مداريّ . لم يكن لدي ما أخسره لحسن الحظ. من نافذتي، شاهدتُ البيوت الخشبية وهي تطفو في مجرى النهر، وتتجه على الأغلب إلى المحيط الأطلسي، حيث تروح كل الأشياء لتموت. استمريت بالانتقال، وكلي أمل بأن أجد مكاناً أستطيع أن أراكم فيه الكراسي والقصائد والصور. ومع كل نقلة، كان عليّ أن أقدّم طلب «تغيير عنوان» إلى مكتب اللجوء؛ ومع كل تحديث، كنت أقترف فعل الترقب، بأن أُمنح صفة اللجوء.
رسالة منح اللجوء تحتوي دوماً – حتى بعد وصولها المستحيل – على رفض لحياتك الماضية، ولتجاربك وتوقعاتك، ولكل ما حصل معك في طريقك إلى مركز اللجوء. قضيتُ الوقت أقرأ قوانين اللجوء، أتصفح مئات الأسئلة على المنتديات التي يكتب فيها المستخدمون المهجّرون، محتارين بين أرقام الطلب ودقائق الانتظار على الخط التي تجاوزت الأربعين، قبل أن نتحصل على شروحٍ بإنكليزية لا نفهمها. قضيتُ ليالٍ أقرأ عن البرامج التي تم إنشاؤها لمساعدة «اللاجئين والسكان من ذوي الفئات الخاصة على إعادة بدء حياتهم في الولايات المتحدة الأمريكية.» وفهمتُ أن المتوقع مني هو أن أقطع صلتي بذاتي الماضية. كانت حياتي «بالانتظار» لأربع سنوات في أمريكا، إلى أن تم السماح لي بأن أعيد بدأها حالما وصلتني رسالة منح اللجوء بالبريد.
شعرتُ حتى وصول تلك الرسالة، وكأنني عالقة في مساحة انتقالية تخصّ مطاراً أو مستشفى أو غرفة طوارئ. ورغم أن جسدي كان هناك، إلا أن وصوله لم يُحسم أو يكتمل، لأن المرء لا يصل إلى وجهته. نعم، قد تصل يوماً ما، ولكنك سوف تقضي الوقت جالساً هناك، على مقعد خشبي بارد، تحاول أن تمارس الحياة إلى أن يمرّ قدر كاف من الزمن، ويظهر رقمك ويُؤذن لك بتسليم جسدك لهم، كي تعيد البدء، كي تستأنف العيش حيثما توقفت.
* نشرت المقالة على موقع الجمهورية.
No comments:
Post a Comment