Jun 8, 2016

رقصة المستوطن في "أرشيف" أركادي زايدس


منى كريم – نيويورك:

ضمن مهرجان مسرح نيويورك للفنون الحيّة، افتتح الكريوغرافر أركادي زايدس برنامج العام بعمله التفاعلي "أرشيف". وصل العرض أخيراً إلى ساحل الأطلسي بعد أن أثار الصخب والعنف من القدس وتل أبيب إلى طولوز وباريس. كان أركادي قد انطلق في تقديم عرضه بدايات العام الماضي رغم محاولات عديدة لمنع ظهوره لأنه "يشيطن جنودنا" ويساهم "بنشر معاداة السامية" حسبما هتف حفنة من المتظاهرين هنا وهناك. في يناير ٢٠١٥، قدم أركادي ثمانية عروض متتالية لقاعة ممتلئة بالحضور في باريس بعد أيام من أحداث شارلي ابدو.
في هذا العمل، نجد محاولة فنية لاستعراض الواقع عبر الوساطة المريبة للصورة حيث يبني أركادي شريطه المرئي والجسدي بالتنقيب في تسجيلات الفيديو التي يمتلكها "مركز بتسيلم". يهرب الفن الإسرائيلي مرة أخرى إلى "بتسيلم" وكأنه معبداً للحقيقة فهنالك يقبع أرشيف طويل صورته كامرات المركز بأيدي “متطوعين” فلسطينيين ضمن مشروع توثيقي أسموه “shooting back”. يذكرنا أركادي في بداية العرض أنه إسرائيلي وأن الأبطال-الأشرار ممن يظهرون على شاشة عرضه إسرائيليين مثله. يسير العمل دون أن ننسى من جاء بتلك الكامرات ومن يمسك بجهاز التحكم.


يصحبنا أركادي في رحلة مفصلة عبر مشاهد متعددة ومكررة لعنف المستوطن في نابلس والخليل وغيرها. يمسك بيده جهاز تحكم صغير يقتصر على زر للعب وآخر للتوقف. تغلب الصور الواقع في حضورها. نتفرج على المواجهة المباشرة حين يتداخل الفنان مع المستوطن ويتشابك معه، أو يرتدي جسده وإيماءاته، ليحاول عبثاً أن يلغي النهايات. تركز كل المقاطع على اللحظات الأخيرة قبل وقوع الجريمة عندما يمتلئ الجسد بالعنف إلى نهاية أطرافه. يدخلنا أركادي إلى مختبره المشتعل لنشاهد تصنيعه البطيء لرقصة العرض التي يلتقطها من أجساد المستوطنين الهائجة والعنيدة.

تركز اختيارات أركادي على أجساد الأطفال والمراهقين من المستوطنين. يشرح لي بعد العرض أنه يرى في هذا العنف الممنهج ما هو أبعد من الأيدلوجيا- بل أنه أسلوب حياة. قضى أركادي مئات الساعات يتتبع ويقلد الأجساد التي تقف خلفه على الشاشة. مقاطع لأطفال يتدربون على رمي الحجارة، أخرى لجنود يتباطئون في قنص أهدافهم، أيد تهش الغنم بعيداً عن المستوطنة. يستخدم الفنان جهاز التحكم لنشاهد بضيق انتفاخ الجسد المستعد للهجوم: نرى الاندفاع، التريث، التماهل، التراجع، الترنح، التأرجح، التردد، التخفي، ثم الطيران لوهلة خاطفة. يستخدم أركادي الإيماءات ليسكتشف الأبعاد الحادة لهذه الأجساد. كيف تتنامى وتتداخل لتخلق تلك الضوضاء الجارحة. يقلدهم تماماً أو يمط حركاتهم إلى سياق متقارب ثم يقف في الضفة الأخرى كأنه مرآة شرسة أو أخرى مظلمة. لا يحاول أبداً أن يحتفظ بالمسافة ذاتها عنهم.

بعد الانتهاء من تشكيل رقصة المستوطن، يدخل أركادي في مهمة جديدة لاستكشاف المكان ومشهدية الفرد ضمن جماعته. يظهر الفلسطيني ممثلاً بالغنم المطرود والشجر المحروق أو من خلال صوته خلف الكامرا حيث يتمتم لعناته على رب المستوطن. نشاهد حقولاً مشتعلة وشوارع خالية ونوافذ يشغرها جنود. يكثف الراقص لعبة التكرار ليضغط إيماءات العنف في لوحة ختامية تتداخل فيها أصوات المستوطنون وكأنها حالة متفجرة من العواء. نصبح أمام مشهد تفاعلي عن القوى المدمرة لهاته الأجساد بشتى حالاتها.

سألت أركادي عن استخدام الشاشة وأهمية العودة إلى الأرشيف. قد يترك الأرشيف انطباعاً أن الصورة منتهية أو حتى مجردة، لكنه يجد أن تموضع جسده ضمن هذا الأرشيف يخرجه من الصورة إلى العين، أي يبث الروح فيه. “فعل المشاهدة هنا لا يقتصر على جسد المستوطن بل أيضاً على عدسة الفلسطيني باعتبارها استعارة وسائطية للتعامل مع اليومي". وفي ذات السياق يرى أن جهاز التحكم في يده هو "الوسيط المتاح للفنان بين الصورة والحدث".

وعن حاجة الراقص إلى الصورة يقول أركادي بأن الجسد "لا يحتاج إلى تصميم راقص فالعالم من حوله يقدم كل هذه الحركات التي تتنظر منا أن نزورها ونفكر فيها" لنخلق بذلك "قاموساً حركياً" يسمح بحضور سياقات الواقع. ولكن ماذا عن المسافة المتفاوتة التي تفصله عن الصورة؟ يجيب "أحاول أن أنقد هذا البعد فعملي يقف في صلب العلاقة بين الصورة والعنف التي تحدد هويتي ضمن الحدث المطروح.”

كان عرض أركادي العمل الوحيد غير العربي ضمن برنامج المهرجان والذي جاءت تيمته بعنوان "الشرق الأوسط/مستقبل". سألته كيف يأتي حضوره في هذا السياق وعن أي مستقبل يتحدثون في نيويورك. "المستقبل سيحدث على أي حال. لا أظن أننا نحتاج لهذه المناسبة للتحاور فهنالك علاقات صادقة بين فناني الشرق الأوسط. لا أريد التفوه بكلام عاطفي عن وحدة ساذجة تجمعنا لكنني أرى في أعمالنا مسائلات جادة عن قيم ورغبات سياسية. هذا لا يعني أن التحاور بحد ذاته هو الحل بل هو فرصة مشتركة للتفكير.”


بالتوازي مع عروض المهرجان، نجد أركادي في قاعة أخرى في غرب المدينة حيث شاشة ضخمة تعرض فيديوهات المستوطنين التي اختارها وأخرى لبروفاته في الاستوديو. في مدخل المعرض نشاهد فيديو للمظاهرات الهزلية التي نظمت ضد العمل. كان "أرشيف" من بين ٢٠ عمل فني في إسرائيل هددوا بالمنع أو وقف الدعم. تقف مشاركته هذه إلى جانب عمل قصير من صنع إسرائيلي آخر هو دانيل لاندو الذي قام بتصوير معبر قلنديا بزواية ٣٦٠ درجة خلال مروره من وإلى فلسطين. ارتديت نظارات غوغل خاصتهم ودرت حول نفسي أتفرج على نقطة الحاجز عبر جسد لاندو. لحظت حينها وجوهاً فلسطينية تنتظر وتحدق بتملل

* نُشرت في ملحق جريدة المدى - بغداد 

No comments:

Post a Comment