لم يعرف معاوية الرواحي أن جنسيته العمانية، التي تتيح له قيادة سيارته عبر حدود وجسور الخليج، هي نفسها التي ستوقعه في الفخ. كان معاوية في طريقه إلى سلطنة عُمان عبر الحدود المشتركة مع الإمارات، بعد رحلة قصيرة في البلاد الشقيقة. ولهذه الحدود حكايا شائكة كثيرة أضجرت المستعمرين والأعمام والعابرين، كان معاوية قد تطرق لها في مدونته "مهذونة معاوية الرواحي"، التي حُذف محتواها بعد اعتقاله.
إلا أن هذه ليست المرة الأولى التي يعتقل فيها معاوية، فسبق أن أودعته السلطات العمانية مستشفى الأمراض العقلية، ضمن نفحة غبارية من هبوب "الربيع العربي"، وعدّته مشاغباً قرآنياً وملحداً يكتب القصائد العمودية ويعلم حفظ الآيات بمساعدة الأرقام.
لمعاوية كتب عدة في الشعر والنثر، من بينها كتابه الأخير "ميثاق الخلاص"، الذي تحدث فيه عن تجربته في السجن/المستشفى. إلا أن معاوية لم يثر حنق أحداً بأعماله الأدبية، بل بوجوده الافتراضي عبر المدونة وقناة الـYouTube. "يفلسف" الانترنت كـ"تجربة معرفية"، لمعاينة واكتشاف الذات. "يتذاكى" على مشاهديه بـ"تدوينات مرئية" طويلة عن مشوار لشراء السجائر، أو رحلة للبحث عن سائق تاكسي. يرى معاوية أن "تدويناته المطولة تبعد عنه المتطفلين من نافدي الصبر، وتستفز عيون الأمن التي ترهقها ثرثرة الساهرين". تأتي مقاطع الفيديو هذه ضمن ما سماه الشاعر "نمطاً مسترسلاً" من "الاستقراء الميداني" للفضاء المحيط.
وفي قناة معاوية على YouTube نجد قصائد مسجلة له، من بينها قصيدة عن السلطان قابوس، يبدو أنه كتبها بعد الإفراج عنه. ربما هي محاولة ناضجة للتصالح مع رجل لم تزحزحه لا الانقلابات ولا الثورات. إلا أن توبة الشاعر غير مقبولة، وإن كانت السلطنة تتحرج من اعتقاله ثانية، فإن السجون لا تخضع لحدود. دول مثل السعودية والإمارات، قبل الاتفاقية الأمنية الخليجية وبعدها، تستطيع التكفل بالأمر. كانت زيارة معاوية خير فرصة لتأديب ابن الجار وتصفية الحساب مع كاتب شاب لانتقاده "السلطات الإماراتية ورموز الدولة". لم يعرف أهل معاوية مكان سجنه في الإمارات وجرت الأحاديث أنه قد تعرض للتعذيب.
تعدّ الكاتبة فاطمة الشيدي زميلها الرواحي "ظاهرة من الشطط الشخصي والنصي"، تتأرجح بين "القبول والرفض والامتثال الجهري والخروج الداخلي". ينتظر الرواحي الآن جلسة محاكمته في أكتوبر المقبل، بعد أن تقرر تأجيلها مرة أخرى. وبرغم خطورة تصاريحه، لم يتخل أدباء السلطنة عن معاوية كلياً، فقاموا بإصدار بيان للمطالبة بإطلاق سراحه، بينما يستمر بعضهم في كتابة مقالات وتدوينات عنه.
شاعر الثورة الأزلية
لا تقتصر سجون الخليج على المشاغبين والحداثيين فقط، ففي أحيانٍ كثيرة قد يكون الشاعر المسجون شاعراً باللغة العامية، مثل محمد بن الذيب، الذي يقضي 15 عاماً في السجن بسبب قصيدة حماسية عن الثورة التونسية، أو قد تكون شابة فتية مثل آيات القرمزي التي حبست مدة عام في البحرين، بسبب قصائد"الدوار" (ميدان اللؤلؤة حيث اندلعت تظاهرات ثورة فبراير 2011). وقصة الشاعر السعودي عادل اللباد، الملقب بـ"شاعر الثورة"، الذي اعتقل عام 2012 وحُكم عليه بـ13عاماً في السجن.
كان اعتقال اللباد الأخير هو الرابع في حياته، بل إن قصته مع السجون بدأت قبل بضعة عقود، حين التحق بـ"حركة الرساليين الطلائع"، وهي "حركة شيعية" انتهى الكثير من أعضائها في سورية، قبل أن "يعفو" الملك فهد عنهم. كان اللباد أحد هؤلاء العائدين، إلا أن تظاهرات القطيف عام 2011 واعتقال نمر النمر، تسببت بإعادة اللباد إلى مكانه باعتباره "شاعر الحراك". وكانت السلطات السعودية قد حكمت عليه بـ"5 سنوات بتهمة جرائم المعلومات، 3 سنوات بتهمة تزوير جواز سفر قبل 30 عاماً، و5 سنوات عقوبة تعزيزية".
المهاجر وخطيئة الشعر
في يناير 2015، اعتقل شاعر آخر لم يخرج في تظاهرة، ولم يشتم حاكماً، اسمه أشرف فياض، الفلسطيني الذي انتقلت عائلته للعيش في السعودية قبل 20 عاماً. كان اعتقاله أثار بعض ردود الفعل في البداية، لكن الغالبية صمتت بحجة الخوف من تهمة الإلحاد، التي يواجهها فياض. تقدم أحد القراء بشكوى ضد الشاعر، بتهمة نشر الكفر في ديوانه "التعليمات بالداخل"، الصادر عام 2008 عن دار الفارابي. وكانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي السجّان هذه المرة، لا الأمن ولا المخابرات. حققوا معه وناقشوه في دين الإسلام، وسألوه عن شعره الطويل، وصوره على الإنترنت مع زميلاته الفنانات والكاتبات. لم تكن التهمة متعلقة بالنص، بل بصاحبه الذي كان وقتذاك يعيش حالة زهو بعد مشاركته في بينالي البندقية، وتنظيمه معارض فنية شابة.
بعد اعتقاله، تحدث والد فياض إلى بعض وسائل الإعلام محاولاً توضيح حالة ابنه. قال إن "مواطناً ما تشاجر مع ابنه ليتقدم بعدها بهذه التهمة الكيدية إلى برابرة الأخلاق، حتى يتكفلوا بمهمة التخلص منه". مر أكثر من عام على اعتقال فياض، وتهمه تتنوع وتتحول كما يتم تغيير القاضي المسؤول عن قضيته ومواعيد محاكمته. وهكذا تختفي التهم مع المحاكمة، ولا يبقى في المشهد سوى تأويل من قارئ لا يؤمن بعد بموت المؤلف.
* نشرت في رصيف٢٢
No comments:
Post a Comment