May 18, 2019

الأدب العربي والآخر الأفريقي

بعدما انتقلتُ للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، عملتُ باحثة تحت إشراف المفكر والباحث الكيني الراحل علي مزروعي. في تلك المرحلة من حياته، كان مزروعي قد يأس من الأحلام العروبية والأفريقية معًا ، ليتبنى هوية إسلامية فضفاضة بدلًا عنها. لكن في عام 1992، كان مزروعي قد قدم المقترح التالي: «درس الفرنسيون ذات مرة علاقتهم الخاصة بأفريقيا وتوصلوا إلى مفهوم (أوروأفريقيا) Eurafrica كأساس لتعاون ذي طبيعة خاصة. في المقابل، علينا دراسة العلاقة الخاصة، الأقدم تاريخيًا، بين أفريقيا والعالم العربي لنطلق عليها (أفرابيا Afrabia).»

وجدت في مقترح مزروعي دعوة طموحة وملحة، لأدرس في بحثي الأكاديمي الأدب العربي الحديث لتقديم قراءة لعلاقات العرق والهوية في المنطقة حيث يشكل تاريخ العبودية والأفرو-عرب جزءًا كبيرًا من تاريخها. قد يسمح مقترح (أفرابيا) للأفارقة بإعادة النظر في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية الطويل في أفريقيا، وتقاطعاته اللاحقة مع المشروعات الاستعمارية التي جعلت من العرب والجنوب-آسيويين أسيادًا في أفريقيا، فضلًا عن تاريخنا المشترك في النضال ضد الاستعمار وطموحاتنا المتقاطعة ضد الرأسمالية. أما بالنسبة للعرب، فإن (أفرابيا) تأتي كدعوة ضرورية لمراجعة طال انتظارها للتاريخ واللغة والآداب والفنون التي تتعامل مع أفريقيا والسود والأفرو-عرب من منظور رجعي وعنصري.

في مارس الماضي، نظم «بيت الرواية» المنشأ حديثًا في تونس مؤتمره السنوي الثاني للرواية العربية. واتخذ المؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام عنوان «قضايا البشرة السوداء» مدفوعًا بـ «الوعي السياسي للجماهير الشابة في جميع أنحاء العالم العربي» وبحضور عشرات الروائيين والنقاد العرب. استغربت عنوان المؤتمر وتساءلت كيف وصل المنظمون لهذا الوصف غير المألوف، بدلًا من عنوان مثل «قضايا السود» أو «قضايا الأفرو-عرب»، إلا أن الصياغة لم تأت من فراغ.

يبدو العرب، على غرار أساتذتهم في الغرب، مشغولين بلون البشرة ومُثُل الجمال والتمثيلات البصرية عند مناقشة العنصرية ومعاداة السود؛ وبذلك يعبرون عن هلعهم العرقي المقتصر على لون البشرة، وكأن العنصرية ضد السود ليس لها تاريخ، أو جذور، أو تطورات تتجاوز الوصمة الملحق بالبشرة، أو الخطاب المحيط بها.

عندما أستخدم هنا مصطلح «أفرو-عربي» فهي استعارة من فضاء لغة أمريكية مسيسة، وليس باعتباره مصطلحًا يتبناه المثقفون العرب أو يفكرون فيه حتى. إنه مصطلح تجده في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، لكنه غائب عن الأدب العربي والحوارات السياسية. على الهامش الإلكتروني نجد مؤخرًا شبابًا من شرق وشمال أفريقيا يعودون إلى أفريقيتهم في تعبير عن رفض للعروبة، متعللين بالعنصرية العربية وسياساتها الإقصائية كأسباب للتملص من ذاك الرابط التاريخي مع العرب. وقد وفرت الانتفاضتان الجزائرية والسودانية الراهنة أمثلة على ذلك.

من متابعتي لتغطيات المؤتمر، لاحظتُ الفوضى التي اتسمت بها ندواته حيث الخلط بين العرق والعنصرية والعبودية وأفريقيا والسواد كمترادفات متماثلة. جاءت اللغة المُستخدمة والحوارات الدائرة على مستوً مخجل، فلم يحاول أحد هؤلاء الاستعانة ببعض من الخيال أو الدقة والحساسية في استخدامهم المتكرر لوصف غريب وإشكالي مثل «أصحاب البشرة السوداء». يتحدثون عن «ألم الرجل الأسود» وكأنه مجرد استعارة أدبية، ألم يجاور ألمنا العربي، مسألة حقوق إنسان، وكأننا لسنا بحاجة إلى النقد الذاتي وتحريك اللغة وتنقيب التاريخ، باتجاه حراك تحرري تضامني.

يلاحظ الواحد كيف يتعامل الكتاب العرب، ومن بينهم كتاب شمال وشرق إفريقيا، مع أفريقيا باعتبارها الآخر؛ وكأن القارة ذات الحدود الواضحة أصعب على مخيلتهم من «العالم العربي» الذي اختلقه الفرنسيون لتخطفه القومية العربية لاحقًا. كما أنهم يتعاملون مع ثقافات وتجارب السود وكأنها كتلة واحدة، من زنجبار ولاغوس وحتى هافانا وديترويت.

نلاحظ أيضًا أن نقطة التقاء العربي بثقافات الأفرو، وحتى ضمن الأدب العربي والفكر السياسي، مرتبط بالأمريكيتين وفرنسا، أكثر من أفريقيا ذاتها. نجد أن الترجمات والمراجع أو المُداخلات اليسارية، وحتى بالنسبة للأفرو-عرب من الكتاب، تتجه إلى كتابات إيمي سيزار وفرانز فانون، فضلًا عن الأدب الأفرو-أمريكي وحركة الحقوق المدنية.

أثناء المؤتمر، صرح الكاتب السوداني-المصري طارق الطيب في حوار تلفزيوني أننا «ما زلنا نتعامل مع السود بطريقة نمطية، خاصة في الأفلام. حيث يتم تقديمهم وربطهم بوظائف معينة دائمًا»، في إشارة لأدوار الخدم. استغربت كيف اختار كاتب عربي أسود الضميرين (نحن وهم) في هذه الجملة، أو لربما هنالك «نحن» صغيرة ضمن «نحن» كبيرة! أشير إلى هذا التصريح بحكم تواجد عدد كبير من الكتاب السود، من بينهم سلوى بكر (مصر)، حمور زيادة ومنصور الصويم (السودان)، حجي جابر (إريتريا)، ومحمود تراوري (السعودية).

لم تكن تدخلاتهم مركزية، ولم تختلف لغتهم عن الخطاب السائد للمؤتمر، كما لم يُدع أحدهم ليكون ضيف الشرف، لأن الاختيار وقع لسبب ما على اللبناني إلياس خوري. في محاضرته، صرح خوري ذو السبعين عامًا أن «العبودية لم تنته، لأننا جميعًا عبيد القمع» وهي عبارة أقل ما يقال عنها إنها حمقاء وخطيرة حيث تفترض مسافة بيننا وبين العنصرية والعبودية، كما أنها تساوي بين أشكال التمييز والقمع كأنها متبادلة. فكيف يسمح كاتب لنفسه بمقارنة استعباد الإنسان بتجربة القمع الجمعية. ثم أعاد مدير «بيت الرواية» الكاتب التونسي كمال الرياحي توظيف ذات المنطق عند ذكره «أسواق العبيد في ليبيا وسوريا» في كلمته الافتتاحية.

أزعم أن الكتاب السود بالعربية نجحوا في كتابة قصص وشخصيات من واقعهم محققين نجاحًا ملحوظًا في العقدين الماضيين. عند النظر لبرنامج المؤتمر، نجد ندوة بعنوان «الكاتب الأسود، القارئ الأبيض» في إشارة إلى فانون، وهو ما يؤكد مرة أخرى على هوس بلون البشرة والذي يأتي كإلغاء للعرق وبالتالي اعتبار العربي نفسه أبيضًا. من بين المدعوين نجد من كتب روايات بأبطال سود ضمن اتجاه كبير في الأدب العربي المعاصر لاستغلال سرديات «الأقليات» سواء كانوا من العرب السود أو المهاجرين الأفارقة والمهاجرين من جنوب وشرق آسيا والأشوريين واليزيديين، بالإضافة إلى اليهود العرب.

لقد وجد الكتاب العرب، في أعقاب حرب العراق وإقحامها الإشكالي لسياسات الهوية في المنطقة، فرصة في الكتابة عن هذه الجماعات المهمشة التي تمنحهم طريقًا للترجمة وتسخير الأدب كمادة أولية لأكاديميي الغرب ومنظمات المجتمع الدولي. يشتكي لي بعض مترجميهم من لغتهم وتمثيلاتهم العنصرية، ليقوموا بالتدخل أحيانًا لتطهير اللغة من هذه الإيحاءات العنصرية عبر فعل الترجمة. بصفتي كاتبة وأكاديمية عربية، فقد افترضت أن المؤتمر سيكون فرصة لمراجعة ومحاسبة هذه السرديات الرجعية والعنصرية التي تتسم بها الروايات المعاصرة، وأذكر من بينها روايات كمال الرياحي «الغوريلا» و«المشرط» (تونس)، وعلي المقري «طعم أسود.. رائحة سوداء» (اليمن)، سميحة خريس «فستق عبيد» (الأردن) ونجوى بن شتوان «زرايب العبيد» (ليبيا).

حتى ذلك الحين، يظل حلم (أفرابيا) بعيد المنال.

No comments:

Post a Comment