قد لا يبدو من العدل أن نقارن صناعة النشر العربية بغيرها مثل الأوروبية والأمريكية، خاصة أن الأخيرة صناعة رأسمالية بطبيعتها، مثلت نقطة تحول رئيسية في تاريخ إنتاج المعرفة. ولربما يمكننا تصوير الفرق الشاسع بين النشر العربي والغربي عند تلك اللحظة التي جمع فيها نابليون الكنوز المعرفية لمصر لتصبح مرجعيات مفتوحة في الأكاديميات الغربية. فبينما يجلس النسّاخ العربي ليلة بعد ليلة لينقل المعرفة من صفحة إلى أخرى بحميمية عميقة مثل تلك التي تنتاب المترجم، تلهث آلات الطباعة في تصدير آلاف النسخ. في الأخير، من منا لا يشعر بالامتنان لديمقراطية القراءة التي جلبتها آلات النشر؟
إلا أن المقارنة ضرورية بين الصناعتين لمناقشة الآليات والرغبات التي تؤثر بدورها على دورة الأدب وحياة الأديب. كثيراً ما نقرأ عن قامات أدبية كبيرة في الغرب عانت من رسائل الناشرين الرافضة، والمعتذرة عن نشر بواكير أعمالهم. كنت قد قرأت مثلاً رسالة لفرجينيا وولف تعبر فيها عن مرارتها من رسائل الرفض هذه وهي التي ترى أن جزءا منها يعود لذكورية الأدب والنشر. لم يستطع هؤلاء استيعاب أن هذه النصوص المرفوضة ستغير مجرى الأدب فكانوا يبحثون عما يتناسب وتعريفات الفن الرفيع لدى الذائقة البرجوازية.
طيب، وماذا عن الناشر العربي؟ رسائل هذا الأخير لا تعنى بالأدب ولا بذوق رفيع ما، فهو لا يوظف المحررين ولا الأدباء لتقييم النصوص التي تصله. الناشر العربي يعمل من البيت، من الكومبيوتر، وأحياناً كثيرة على الفيسبوك! يرتبط ذلك أيضاً بالمأساة الجديدة لواقع الأدب العربي المعاصر الذي صارت ساحته الرئيسية شبكة اجتماعية تبتلع النصوص في غضون لحظات، وتجعل من الأفكار مواضيع ثرثرة صغيرة. وبطبيعة الحال، الناشر العربي ابن مشهده إلا أنه الأقل إخلاصاً له، بل أكاد أقول إنه لا يعنى بالأدب إطلاقا!