Aug 17, 2016
إن تبتعد خطوة سأبتعد اثنتين وإذا ابتعدت اثنتين أقتلك بضمير مرتاح
صدر هذا العام الديوان الأول للشاعرة آية نبيه عن الكتب خان في القاهرة. في القراءة الأولى شعرت بالقصائد والتراكيب تتزاحم في مساحة ضيقة. وبعد عدة قراءات، عرفت كيف أنظم انطباعاتي في ارتباك النصوص. على صفحات الديوان، رسمت خطوطاً وأسهما متناثرة وكتبت ملاحظات عمودية وأفقية وتعليقات حانقة وأخرى ملتئمة، أحياناً أقوم بتحرير النص ليصبح نصي وأحياناً أخرى أبحث عن كريوغرافيا ما تهيكل العمل.
تفتتح نبيه عملها بنص بلا عنوان، بل قد يكون مفتتحاً يلف المجموعة قبل أن تدخل إليها. نقرأ السطر الأول «في البدء كان الفراغ» بخط مائل. لاحقاً تستخدم الشاعرة الخط المائل في نصوص أخرى وكأنه صوت راو مجهول. في هذا المفتتح هنالك توضيح صارم ضد المجاز وبأن النصوص تذهب من المادي إلى الذاتي. ويصدر التوضيح بصوت مونولوجي مهمته «طرد الفراغ». في مواضع أخرى، تستبدل الشاعرة الفراغ بمفردة مثل «الخواء» كما أنها تتكئ بشكل كبير على «مضي الوقت» باعتباره ترجمة أخرى لطرد الفراغ. نجد أنفسنا أمام ٣ مصائر: هل نضع الفراغ في زجاجة فيختنق؟ أو نلقي به في البحر فيغرق؟ أم نكّسره ونهديه لأحدهم؟ هكذا نجد أن الوقت لا يمضي إلى الأمام مثلما لا يغطي الفراغ الشاسع جسد الأفق فالقصيدة تسير في اتجاهات شتى.
تكتب نبيه وكأنها تطوي قمصان أفكارها، تفتح قصيدتها بتمارين ركوب الموج، تخلق مداً وجزراً، تخطفها الرمال من غربتها إلى بر التشابه، فتصنع من الموج أرضاً لها، هكذا تراكم الأفعال الصغيرة واحدة فوق الأخرى حتى ينهار عالمها فتعصره إلى صلصال واحد. في المقطع الثاني تتحسن الرحلة لكنها تكتسب صعوبة فإيقاعها يشبه الحركة المتخبطة لسيارة تصعد جبلا وعرا: «ليس ثمة طريق يكسو الأخضر جانبيه حتى النهاية/ أم ليس ثمة نهاية لطريق/ أعرف أن صحرائي بعيدة/ لكني لا أمل عد زجاجات المياه بعد كل خطوة/ لأضمن أني سأتجاوزها/ ما لا يمنع من مواصلة المشي/ ساحبة طريقي ورائي/ خفيفًا ومرتاحا/ ينتفض من النسيم». تتنقل الصورة بين الطريق والأنا، تستمر الذات في سيرها، حتى تلامس أصابع الطريق. لا تكترث الذات الا بعالمها المادي. الأشياء الصغيرة. الأغنيات. الأماكن المحيطة. أكثر من أي أصوات أو أجساد. وفي مثل هذا اللقاء، تنفخ الذات من روحها في الجماد لتفعيله، فتصبح منه، حتى»ينتفض من النسيم».
بعد نص «التمارين»، تكتب نبيه قصيدة «سفر مزمن» بروح سايكوانالاتيكية غامقة ذات حركة سينمائية. في كل جملة، تجد عدة جمل «رغم أن الطمأنينة تلف محيطي، يصل الباطن إلى توتر، يستحيل تأجيله». يأتي النص بمشهد متباطئ في داخله لكنه عابر في واقعه من خلال بنية تشبيكية. في لحظة الضغط على فرامل الحافلة، تنهار الرتابة، يسقط الجسد على الطريق وتبقى الذات على الكرسي تنظر إلى الوراء. كل ما يشغلها أن تكون قد فوتت فرصة الهروب. هنا، لا تقوم الذات بتفعيل الطريق، بل على العكس، تصطدم الطريق بها من أجل ترجمة الباطن إلى الحسي. تأتي نصوص المجموعة وكأنها متتالية شعرية مشغولة بذات الحالة – حالة قتل الوقت.
في نص «كرونوفوبيا» (أي رهاب مضي الوقت) يسجل الصوت المونولوجي حضوره في حوار عن العتمة. تود لو تعترف بهواجسها لكنها سريعاً ما تتدارك قواعد اللعبة التي اختلقتها «أرى الأفكار العذبة والبائسة داخل رأسي خيوط صوف ملونة متداخلة، والأغنية خيط شفاف يلفها جميعا.. أقضي الوقت في حل الخيوط وتكوين بكرات متناسقة من دون جدوى. الوقت يتقدم نحوي وأنا متصلبة عند سور الجسر». تمنحك الشاعرة راحة مؤقتة في تمارين احتواء الذات ثم تسلبها منك في لقطة دراماتيكية مختصرة «أسحب بصعوبة خيط فكرتي عن الوقت، أتتبعه لأصل إلى أحد طرفيه، وأفصله عن البكرة المتشابكة. أتخلص منه في النهر/أظن أني في مأمن، لكن مياه النهر ترتفع وتقترب فجأة من سور الجسر الذي التصفت به قدماي».
عند نص «استئصال» تقشر الشاعرة الفراغ مثل بصلة. في المفتتح، كانت «الأشياء الصغيرة» هي «أعداء الفراغ» أما عند منتصف العمل تصبح الذات شيئاً صغيراً أيضاً «ما الذي يمكن أن أتوقعه بعد أن يعاديني الفراغ وأنا أمضيت زمناً أربيه». نتجاوز بذلك تمارين الأرق إلى تداعياته. ماذا بعد هذا اللهو المؤلم في المساحة؟ تقلب الفراغ مراراً، أرادت طرده في البداية، تحاول استئصاله الآن، تصبح التمارين هوايات: «أخرجت من حجرتي كل الساعات، لاحظت أن الساعة الكبيرة تركت على الحائط مساحة إضافية تسمح للتحديث بها من دون عقارب مزعجة». تنتهي المهمة وينتهي القلق معها حتى تصطدم القصيدة بخواء الوحدة: «أفكر أنه من الجيد أني لم أعد أقلق، لكني لا أعرف ماذا أفعل الآن ببيت بلا شجرة وعصافير لن تزقزق أبداً وشباك مغلق الفزع».
يغيب الأشخاص عن قصائد المجموعة، كما لا يمكنك أن تلحظ أي كتل ضخمة أو مطلقة مثل «العالم» إلا مرة واحدة في نص «مضاعفات المحبة». وحتى في هذا النص، يتم توريط العالم في مساحة متر واحد: «دعني أيها العالم أغضب منك قليلا لأنك بعيد. خطوتك البطيئة تؤجل نشوتي التي تبدأ على الطرق السريعة. الآن أقف على نفس المسافة منك. لكنك ان تبتعد خطوة سأبتعد اثنتين، وإذا ابتعدت اثنتين أقتلك بضمير مرتاح». وبعد فعل القتل هذا، تنتهي القصيدة بمحاولات إخفاء آثار الجريمة لتصبح محبة العالم بحد ذاتها هي الجريمة: «السكاكين أخبئها في مكان آمن، وأختبر حدتها من وقت لآخر كلما شعرت أني حزينة فقط وأنت في مكانك تتلذذ بمراقبة محبتي وهي تفسد».
الجزء الثاني من الديوان يأتي بإيقاع مثل عنوانه «موسيقى خافتة». يشعر الواحد وكأن الذات قد تخلت عن مهمتها الثقيلة ضد الوقت، واستبدلتها بخفة الموسيقى. النصوص هنا سطورها قصيرة ترتكز كل منها على صورة واحدة تتعدد أبعادها. يصير بالإمكان أن تحشر نفسها في دلو يغطيه السكون، كما في قصيدة «تصورات على طريق النهر» أو أن تتمطط مثل أكورديون يبدأ يومه بالبروفات وينتهي بحفلة حتى تستقر أخيراً «ممتلئة بالنغم وملتئمة تماماً». تكتسب الشاعرة من الموسيقى خفتها لتتلاعب بالوقت بدلاً من ملاحقته. تتساءل «لماذا لا يمارس الوقت فعلاً آخر سوى أن يمر؟ لماذا لا يسلي الوقت وقته برياضة أخرى سوى الجري؟». تتصالح مع الانتظار بعد تنازلي كما في قصيدة «ديكريشندو» حتى تكتسب قوة التجريد في نصها النهائي فتستخدم سحرها لحبس الوقت في «ساعات متحجرة».
* نشرت في القدس العربي
Labels:
Literature,
Poetry
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment