في حديث عن غرائب الأمصار وعجائب الأخبار مع الروائي الأسير أحمد ناجي استخدمت وصف «الفاشي» للإشارة إلى نظام العسكر، ما تطلب منا حينها التوقف عند تعريف ما هو فاشي. ذهب هو في منحاه المعتاد تجاه المستقبلية الإيطالية التي كثيراً ما تسليه طبيعتها الحداثوية المتطرفة في تدمير متحفية الفنون والآداب وأحلامها الكبيرة لمستقبل من الآلات، وهي كلها انطباعات حاضرة في رواية ناجي «استخدام الحياة» التي تتخيل القاهرة برؤية ديستوبية.
أنظر مثلاً اختيار ناجي لجماعة المعماريين باعتبارهم فناني النهاية المرتبط بنظرة المستقبليين للعمارة باعتبارها الفن الجديد للمستقبل. لم ير ناجي في النظام المصري نظاماً فاشياً، لأن الفاشية تحتم أن تكون للدولة طموحات ضخمة وتوسعية في أن تصبح إمبراطورية، أن تتفوق على (أو تمسح) إنسانيتها فتصير ماكينة تصنع الجيوش والعلوم.
أما من جهتي فأخذتني الأفكار في اتجاه مختلف قليلاً، حيث الخطاب الماركسي الذي يرشدنا لتصنيف الأنظمة والأيديولوجيات القمعية باعتبارها أشكالاً للفاشية. ثم تذكرت كتاب روبيرتو بولانيو «الأدب النازي في الأمريكيتين» الذي يكتب فيه موسوعة ساخرة ومتخيلة لأدباء دعموا الفاشية بشتى أشكالها (بداية من المكارثية الأمريكية وصولاً إلى عسكر الأرجنتين). لربما لا يتوفر لدى عسكر مصر طموح الفاشية إلا أنهم بكل تأكيد يحملون ممارساتها وجمالياتها. ولكن هل يعني ذلك أن هنالك أدباً فاشياً في مصر؟
يدفعني استمرار حبس أحمد ناجي (بتهمة خدش الحياء العام) منذ فبراير/شباط 2016 لاستذكار تلك المحادثة وتتبع الحالة الفاشية بين أدباء مصر. أذكر أنني في 2013 دأبت على تجميع كل تصريحات أدباء مصر المؤيدة للانقلاب التي تشترك جميعها في الخوف من الإسلاميين والأثر المتوقع من ذلك على الثقافة والفنون والحضارة وإلى آخره من هذا الكلام الإنشائي. أتذكر أيضاً صنع الله إبراهيم الذي جاء تأييده مستنداً لمحاربة الإمبريالية والرأسمالية والهيمنة الأمريكية، لكنه ولله الحمد تراجع عن كلامه (وأحياناً أنكره) وبذلك تقبل توبته. والحق أن حالة محاسبة الأدباء كانت وما زالت هماً بارزاً منذ اندلاع الثورات العربية – أكبر دليل على ذلك النقاش السنوي حول نوبل وأدونيس كما شهدناه مؤخراً. وما كانت الأنظمة العربية (أبرزها نظام السادات) تدأب على تكريسه من خطاب معادٍ للمثقف بات حقيقة واضحة على يد مجموعة من الكتاب الرجعيين.
إن سؤال دور المثقف (أو في التوصيف الشائع: علاقته بالشعب) هو سؤال قديم في الأدب المصري- خاصة بالنسبة للجيل الستيني. ولربما تكون في رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين» أجمل معالجة لهذا السؤال في لحظة انتفاضة الخبز أواخر السبعينيات، ثم لم يتجاوز الأدب المصري هذا السؤال حتى جاء جيل التسعينيات (جيل الأدب الشخصي) ليقطع هذا الشريان مؤسساً لحالة جديدة وصفها مصطفى ذكري على أفضل نحو باعتبارها قطيعة مع «القضايا الكبرى التي كانت محط نظر الجيل القديم. لا وطن، لا انكسارات وهزائم جليلة، فقط الكتابة بكل ألعابها الشكلية، وإن كان لا بدّ من أوطان وانكسارات وهزائم، فهي أوطان الجسد وانكسارات الروح وهزائم الرغبة. إنها كتابة نستطيع أن ندعوها بالوجودية العائدة العارية من زهو ألبير كامو القديم. كتابة تنتمي إلى الفرد، وتنفر من الجماعة، وتعتبر السياسة والتاريخ والاجتماع من الموضوعات المشبوهة».
ولربما ساهم موت اليسار والعدائية ضد المثقف في تسهيل حالة القطيعة هذه، التي على الرغم من كل شيء تحرر الأديب من كاهل الأمة ومن دور الرسول أو الصوت الأعلى- بما في ذلك من إشكاليات عويصة. إلا أن الحالة التسعينية الصحية كان محتماً أن تصطدم بشيء- شيء ضخم مثل الثورة ومن ثم الانقلاب العسكري الذي يضع الأديب في القبضة المباشرة للديكتاتورية التي لا تقدم لا الخبز ولا الحرية. وهنا يحضرني تحقيق نشرته «أخبار الأدب» بعد ثلاثة شهور من الانقلاب عن مفهوم «الجماعة الثقافية» الذي يقول فيه القاص إيهاب عبد الحميد إن الأحلام لا الأفكار هي التي تربط بين الجماعة الثقافية، وثورة يناير/كانون الثاني كانت لحظة الحلم الجامعة. ويبدو أن لحظة الحلم هي لحظة الاختبار أيضاً التي عادت بأسئلة المثقف والجماعة والأيديولوجيا إلى الساحة مرة أخرى. ولربما يأتي رأي بسمة الحسيني في ذاك التقرير بإضافة مفصلية هي أن أيديولوجيا المثقف وحدها لا تحدد موقعه، بل علاقته مع الدولة.
ومن الثورة إلى الانقلاب وحتى اللحظة نجد أن تمجيد العسكر لم ينحصر على بهاء طاهر وأمثاله، فهناك الروائي الذي لا ينفك يلوك أسطورة نجيب محفوظ مطبلاً لاعتقــــــال كاتب شــاب بوصف كتابته بالبورنوغرافية وكأن البورنوغرافيا جــرماً لا يمكن لها أن تكون أدباً. وتارة أخرى يصنف أي تضامن مع الكاتب الأسير على أنه نوع من التحزب أو اهتمام أجنبي غير بريء. وبذا يقدم الأديب تقييماته الفنية في خدمة الفاشية بدلاً من أن يحتفظ بها تحت وسادته البالية. والغريب في الموضوع أن يصبح المتخوفون من الإسلاميين هم أنفسهم من يحرضون ضد كتاب الأدب الإباحي- كما يسمونه
وهنالك أيضاً مثال الشاعرة التي اشترت بدلة عسكرية يوم الانقلاب وخرجت تتقافز على التلفزيون ممجدة الطغاة الجدد الذين سيحمون العلمانية المصرية من الإسلاميين. العلمانية ذاتها التي فرقت نصر حامد أبو زيد عن زوجته ابتهال يونس ودفعته إلى المنفى، ثم شاءت عدالة الأقدار أن تتم محاكمة الشاعرة بتهمة ازدراء الأديان، على الرغم من زوال خطر الإسلاميين الذين باتوا في السجون والمنافي. لكنها بطبيعة الحال لم تكن من الإيمان بالنظام الذي طبلت له لتدخل سجونه فهربت إلى الغرب (المتآمر على مصر) ثم إلى الخليج خوفاً من الاعتقال. وهنالك نموذج الأديب الذي يقذف بسمومه على الفيسبوك مصنفاً كل وجوه محاربي الديكتاتورية باعتبارهم مخنثين وشمامين ويهودا. ويشير إيهاب عبد الحميد لهذا العنف والتحريض من قبل المثقفين على الشبكات الاجتماعية باعتبارها «أحاسيس الفيسبوك في الانتشاء والقوة». كما نجد على ضفة أخرى المؤرخ الذي يرى أن ما يفعله القضاء شيء وما يفعله النظام شيء آخر- على اعتبار أن كلا منهما في جزيرة، أو الروائي الصحافي الذي كان جهادياً ذات يوم ثم صار رأسمالياً ليبرالياً يكرس قلمه لكتابة البروباغندا حتى دارت عليه الدوائر فاعتقلوا أم ابنته ليغيب مهزوماً في صمته.
هذا النموذج من أدباء الفاشية لا يشبهون من سبقوهم. فهنالك من قام بتمجيد عبد الناصر من داخل سجونه لأسباب أيديولوجية وهناك المتصالح مع نخبويته محتقر الشعب الذي يهمه بقاء المنظومة كموظف فيها، بالإضافة إلى الصنف الشهير من كتاب المخابرات. إن النموذج الجديد من أدباء الفاشية في غاية الهشاشة مرعوب من مساحته التي تتقلص بلهيب جيل جديد يأخذ ثورته إلى النص ومن النص إلى الحياة. جيل لا يختار العسكر ولا الإسلاميين، كافر بأسئلة المثقف والمجتمع والأيديولوجيا، ومخلص لقضايا الجسد والاختلاف قولاً وفعلاً. فكيف يمكن أن يكون للمرعوبين صوت الا باستعارة أبواق الفاشية؟
* القدس
No comments:
Post a Comment