حاورته منى كريم:
فرج بيرقدار شاعر سوري من مواليد حمص 1951. حائز على إجازة في قسم اللغة العربية وآدابها / جامعة دمشق. شارك في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في إصدار كرَّاس أدبي شبه دوري، بالتعاون مع عدد من الأدباء الشباب في جامعة دمشق، وقد اعتقلته المخابرات الجوية في عام 1978 بسبب ذلك، فتوقَّف الكراس عن الصدور بعد تسعة أعداد. اعتُقل آخر مرة في 31/3/1987 بعد مدة من التخفِّي والملاحقة دامت حوالي أربع سنوات، وقد كان اعتقاله هذه المرة بسبب انتمائه إلى حزب العمل الشيوعي. أحيل بعد ست سنوات من اعتقاله إلى محكمة أمن الدولة العليا بدمشق (وهي محكمة استثنائية) فأصدرت حكماً ضده بالسجن خمسة عشر عاماً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية. قامت حملة دولية واسعة للمطالبة بالإفراج عنه، شارك فيها مئات الكتاب والفنانين العالميين، والعديد من الشخصيات الحقوقية والسياسية، بالإضافة إلى المنظمات المعنية مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، منظمة صحفيين بلا حدود، نادي القلم العالمي، منظمة العفو الدولية..الخ، إلا أن السلطات السورية لم ترضخ لضغوط الحملة إلا بعد انقضاء قرابة أربعة عشر عاماً من الاعتقال، قضاها مابين فروع الأمن وسجن تدمر الصحراوي وسجن صيدنايا العسكري. حاز بيرقدار جائزة هلمان/هامت لعام 1998، وجائزة نادي القلم العالمي- الفرع الأمريكي لعام 1999، وجائزة الكلمة الحرَّة في هولندا 2004. شارك بعد الإفراج عنه في العديد من المهرجانات الشعرية مثل مهرجان جرش لعام 2001، مهرجان ماراثون الشعر الهولندي في أمستردام 2002، مهرجان دنيا في روتردام2002، مهرجان الهجرة في أمستردام 2003، مهرجان أنتويرب في بلجيكا 2004، مهرجان لوديف بفرنسا 2004, مهرجان ديار بكر في تركيا 2004. كما أقام العديد من الأمسيات والندوات في دمشق وعَمَّان وبيروت وبرلين وكولونيا وباريس وديجون وجنيف ولندن وستوكهولم وبرشلونة. دعي للإقامة في ألمانيا ثمانية شهور في ضيافة مؤسسة هاينرش بول وذلك في عام 2001، كما دُعي من قبل مؤسسة (شعراء من كل الأمم) للإقامة في هولندا لمدة عام اعتباراً من 24/9/2003، وقد حاضر خلال هذا العام في قسم اللغة العربية بجامعة ليدن.
بكل صراحة، أجمل ما في قصائدك هو أنك شاعر مُحمل بالقضايا الكبرى، ولربما مُتهم بالأيديولوجيا، لكنك تملك قدرة مذهلة على التنصل من الإطارات الضيقة والتحدث بحس كوني، كيف يحدث ذلك.. هل هو تجنب الرقيب الذي يضطرك إلى ذلك أم فهمك للقصيدة باعتبارها حقيقة مطلقة، شاملة وحرة؟
مراراً قلت ولا أزال أقول: ما من قضية خاسرة إلا راهنت عليها، وما من رهان لم أنجح فيه بامتياز. هي مفارقة لغوية بلا شك، ولكنها في الوقت نفسه حقيقة معجونة بوقائع دامية. ولأن الأمر كذلك، ولأن القضايا الكبرى خاسرة بمعايير هذا الزمن، فإن انحيازي إليها لا يقبل التأويل. أما اتهامي بالأيديولوجيا، فإنه ناجم عن تصورات مسبقة أو استنتاجات مغلوطة، تفترض أن الفعل السياسي، بما يقتضيه من مرجعية أيديولوجية، لا بد أن ينعكس على القول الشعري. ولأني حذِر من البداهات غالباً، وضدها أحياناً، فقد بنيت للخطاب الشعري عشاً بعيداً عن دهاليز الخطاب السياسي. كان لا بد من شيزوفرينيا ناجزة ما بين الحالتين، أو قتل واحدة منهما عند الولوج في الأخرى، وقد حدث أن هجرت الشعر أو هجرني لست سنوات، لم يكن ممكناً لي فيها التحكم بالفصل والوصل المتناوبين ما بين الشعر والسياسة. كان ذلك في سنوات التخفي والمطاردة والتفرغ للعمل الحزبي، لكن في السجن وما بعده فقد عادت علاقتي مع الشعر إلى سابق عشقها ووفائها.
ربما كان للأيديولوجيا بعض الظلال على قصائدي في مرحلة السبعينيات، بما انطوت عليه من مشاعر وطنية وقومية وهَّجتها المقاومة الفلسطينية لدى قطاعات واسعة من الجماهير العربية، غير أني لم أكن أفيء إلى تلك الظلال. كانت قناعتي بأن المقاومة أحوج ما تكون إلى الإبداع وليس إلى استجرار التصفيق واجترار الشعارات. وكذلك كان الأمر بالنسبة لتجربة الكتابة خلال سنوات السجن: إهمال الطافي والغوص للبحث عن المغزى.. عن معنى تاء التأنيث في تلك الجزيرة من الرجال.. عن الشعر بوصفه طائر الحرية المثقل بالفضاء والأجنحة.. عن المرأة كمعادِل جمالي للرحمة والأمان والحرية.. عن الرقص الذي لا يمكن لنا أن نوقظ الأرض بدونه.. عن آلاف الفراشات المكفَّنة في منديل واحد من الحرير.. عن اليقين الذي يصلِّي على قِبلة الشك.. عن الأمهات اللواتي يجفِّفن أشواكهنَّ لفصل الشتاء الوشيك.. عن القيود التي ينبغي أن نكتب بها شيئاً أخيراً.. عن وهوهات الخيل وتزويج السراب للرمال.. عن العلاقة بين أبناء آدم وأبناء الدم.. عن الذين يختبئون وراء الله ويختبيء وراءهم، وهم يترصَّدون قلوبنا تنهض مكشوفة في العراء كالدريئة.
الأيديولوجيا تهرب من هذه الميادين التي توقِع في الشبهات، إلى ميادين أخرى لا تميل ولا تستقيم ولا تستقيل. حتى تفاصيل السجن وعذاباته ولعناته وكوابيسه وأجهزته لم يكن ممكناً لها أن تكون من شؤون الشعر، بل من شأن السرد الوثائقي الدقيق أو التحليلي المؤدلج أو اليوميات، وقد حاولت شيئاً من ذلك في يومياتي أو في ما يشبه الشهادات على التجربة. أما قصائدي فأزعم أنها لم تتورط بغير ما يليق بها من حرية واسعة الزرقة وخارج أي اعتبارات لأي نوع من الرقابات التي تدبُّ على الأرض.
بعد إطلاق سراحك، هل تحرر جسد فرج بيرقدار دون روحه؟
تحرر جسدي بدرجة ما وعلى نحو ما، تحرر من مضاضة الجدران، في المنفردات أو المهاجع أو الكوريدورات، المخنوقة بالرمادي البليد، تحرر من غرغرات الزمن وحشرجاته المثقلة بما يشبه انتظاراً ملولاً لموت رخيص لا يصل، ولكنه لم يتحرر من ذاكرة الألم، وشهيق السياط وزفيرها، والأنين المخطوف لأنفاس السجناء، ولم يتحرر مما ورثه من تشوهات وأعطاب وندوب. أما الروح؟! أمااااااااه.. ليتك لم تلدي هذه اللعنة الغامضة. في الأعماق مساحات شاسعة جرداء، صحارى محصودة الرمال، توابيت تنهرها توابيت، وما من حليف سوى قوة اليأس وشرفه واستجابته لرهان المضيِّ إلى النهايات.
اعتدنا التفاجؤ بتعريفات الشعراء لمفهوم القصيدة، رينه شار يراها الطريق الباحث في الوجود، وآخر يعتبرها تكسيراً للتابو، ما هي القصيدة بالنسبة لكَ؟
زنزانتي جسدي والقصيدة حرية طارئة. بالطبع ليس هذا هو الوجه الوحيد في رؤيتي للقصيدة. أحياناً أراها محاولة لإعادة ترتيب داخلي وتوازنه على شفرات النقائض، وأحياناً أراها أشبه باستراحة محارب، وأحياناً كينونة رحمانية قادرة على ترويض بقايا الوحش لدى كاتبها وقارئها، وأحياناً كما في إحدى مقطوعاتي التي تقول: أتخفَّى داخل القصيدة/ وأبحث عني خارجها!/ غير أننا نتواطأ أحياناً/ تدعوني إلى فراشها/ فأستجيب./ تخلع ثيابها/ وأخلع ثيابي/ فترتديني/ وأظلُّ عارياً./
بما أننا في عالم تكميم الأفواه، أو تكميم الأذان، أين يقع الشعر؟
في الحاسة السابعة أو العاشرة، في التيه، في مواقع الوجدان الأكثر أمناً، في الحرية الداخلية للشاعر، وقد نجده على الحد الفاصل ما بين اللعنة والقداسة، وفي إغواءات نداء الهاوية أو مكابدة معراج ضِلِّيل، ولكنه أبداً على خط نار الحياة في مواجهة الموت، والحب في مواجهة الكراهية، والجمال في مواجهة القبح، والنبل في مواجهة الخساسة. الشعر تأسيس دائم للمعنى، ولهذا لا يسبح في المياه الضحضاحة، ولا يستسلم للقلوب الركيكة الخالية من الحب، ولا حتى لركاكة الطغاة.
يقول بوكوفسكي: "أنا شاعر رديء"، هل أطلقت هذه العبارة على نفسك ذات مرة؟
ربما يحمِّل بوكوفسكي قوله معاني أو كنايات أخرى غير ما تشي به الدلالة اللفظية المباشرة لكلماته، وربما هو رغبة في إظهار التواضع أو جلد النفس. أمَّا بالنسبة إلي، فإن أول خطوة أقوم بها، عند اقتناعي بأني شاعر رديء، هي أن أتوقف عن كتابة الشعر، وبعدها أعتذر لمن ورَّطته في قراءتي، ثم أحاول جمع وإتلاف كل ما كتبت. وما دمت لم أفعل فهذا يعني أني لا أرى نفسي شاعراً رديئاً، وإن كنت من جهة أخرى لا أعتبر نفسي شاعراً عظيماً أو كبيراً. يكفيني أنني أستطيع كتابة أشياء مقنعة لي ولعدد من القرَّاء، ولا يستطيع أن ينوب عني فيها شعراء آخرون.
فرج بيرقدار، مؤكد أنك طائر.. هل يجب أن تكون طائراً بلون معين (لون كوردي، لون سوري الخ..)، بمعنى هل تمثل لك الهوية أو الانتماء هاجساً؟
تمثِّل الهوية لي هاجساً مضاداً، وكذلك أعلام الدول والرموز الوطنية المريبة من نسور وعمائم وألوان بيارق الجيوش، وما إلى ذلك من تجارة بأرخص العواطف العامة من أجل أخطر المصالح الخاصة. ألم يتاجر هتلر بالهوية الألمانية لأنصاره، في حين أرسل خصومه من الهوية ذاتها إلى الهاوية؟ ألم يفعل شاوشيسكو الشيء نفسه؟ وكذلك الأتراك والعرب والفرس والأمريكان وكل دول العالم بدرجة أو بأخرى؟! والانتماء يختلف عن الهوية، فالأول يفترض أن يكون اختيارياً في حين أن الثانية تبدو إجبارية أو قدرية، وبالتالي لا معنى لها في العمق ولا فضل. ومن زاوية القيم الأسمى فإني أشعر في انتمائي إلى ما ينتمي إليه محمود درويش وعبد اللطيف اللعبي وسعدي يوسف ومارتين موي وإيف بونفوا وميشيل دوغي وفرانسوا دومينيك ونصر حامد أبو زيد والياس خوري وأميل ألكالاي وغونترغراس وسليم بركات وآلاف أو ملايين الآخرين، أكثر من شعوري في الانتماء إلى آلاف أو ملايين السوريين الطيبين، ناهيكم عن غير الطيبين من ساسة وأزلام وسماسرة ولصوص ودجالين. الانتماء إلى الحب أو الإنسان بإطلاق أو الجمال أو الحرية أو العدالة الممكنة أو الطبيعة أو غير ذلك من هذه الرهافات هو أعلى من أي انتماء يضيق ويتسع تبعاً لما هو له وليس لما هو فيه. لم يبق في سوريا ما أنتمي إليه سوى فسحات ضيقة من الأهل والأصدقاء وبقايا من القابضين على جمر الواقع دفاعاً عن وردة الحلم ونجمة الأمل.
بعد كل هذا المشي بين حقول الألغام، ماذا تريد، أو بمَ ترغب؟
شِعراً أكثر وخطابات أقل.. حباً أكثر وكراهية أقل.. حرية أكثر واستبداداً أقل.. أماناً أكثر وخوفاً أقل.. عدالة أكثر وظلماً أقل.. وباختصار جماليات أكثر وبشاعات أقل في هذا العالم الذي أراه يائساً وحزيناً، بارداً وموحشاً، ملوّث الضمير والنوايا، مثقلاً بالقيود والألغام والتوابيت، معصوب العينين وعلى حافة الهاوية. وباختصار أيضاً أقول: إذا كانت الحياة واعدة بالموت، فإن أقصى الخسارات أن لا يكون موتنا جميلاً.
* نُشر الحوار في جريدة إيلاف الإلكترونية في العام 2005