قضيت في ترجمة هذه الرواية ما يقارب العام من العمل اليومي. خرجت منها بشعور من مر برحلة تحول ميثولوجية مزقتني إلى أشلاء لتعيد تشكيلي من جديد. لا أكاد أصدق أني نفدت بجلدي من هذا العمل الروائي العصي والمتقن والذي يقدم هذه الكاتبة العظيمة لأول مرة لقراء العربية. ولدت أوكتافيا إيستيلي بتلر وترعرعت في باسادينا – كاليفورنيا في العام 1947 لتصبح لاحقًا من أهم كتاب الخيال العلمي ومن بين أوائل النساء اللواتي خضن هذا النوع من الكتابة الأدبية، بالإضافة إلى كونها أول كاتب أمريكي أسود يتخصص في هذا النوع وأول كاتب خيال-علمي يتوج بجائزة “ماك آرثر” التي تمنح سنويًا لخيرة الأدباء والفنانين والعلماء في الولايات المتحدة.
أقدم لقراء العربية أحد أهم أعمال بتلر والتي قد يتم تصنيفها ضمن ما يسمى بـ “أدب العبودية الجديد” الذي بدأ بالظهور في ستينيات القرن الماضي (ويستمر حتى اليوم) على أيدي كتاب مثل توني موريسون، مارجريت واكر، ديفيد برادلي، شيرلي آن وليامز، تشارلز جونسن، وإشمائيل رييد والذي يرجع له الفضل في إطلاق هذا المسمى. لكن “نسب” تختلف عن أقرانها في مزجها بين جماليات الفنتازيا وأدب الرحلات ومذكرات العبودية. كما أن بتلر ليست بروائية واقعية، إلا أن “نسب” تأتي كعمل واقعي تشكله الكاتبة باستغلال أداة خاصة بالخيال العلمي ألا وهي السفر عبر الزمن.
كل أعمال بتلر السابقة واللاحقة تدور في مستقبل متخيل مظلم حيث البشر والكائنات الفضائية يتصارعون ضمن استعارة مسرحية عن التاريخ وواقع الهيمنة والاضطهاد. بذلك، اخترقت بتلر حدود الأجناس الأدبية وجاءت بمخيلة كاتب الخيال العلمي لتعالج تاريخاً شائكًا وقاتمًا بحساسية فذة وجديدة. نلاحظ كيف توظف الكاتبة خاصية الترحال الزمني لالتقاط مفارقة فلسفية كبرى ألا وهي إشكالية قراءة الماضي من موضع اللحظة الراهنة، حيث تمر سنوات الأمس وكأنها دقيقة أو صفحة أمام الإنسان الحديث. تركز بتلر على استعادة التجارب المريرة لإنسان الأمس عبر السرد المكثف والشخصيات المتعددة ولغة الجسد والحوارات التفصيلية للكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية للاضطهاد والقمع على الإنسان والجماعة. لا تكتفي بتلر بتقديم هذه الاستعادة من أجل القارئ الأسود الذي ما زال يموت ويعيش ويقاوم، بل أيضًا كمشروع إبداعي نقدي لكيفية التعامل مع الاضطهاد من الداخل عبر تقاطع عبقري بين قوة الخيال وحقيقة التاريخ، متمثلًا في التفاصيل والأصوات والأجساد.