كل تفصيلة في عالم سركون بولص تحتاج إلى حكاية وعدة كؤوس. على شاهدة قبره في كاليفورنيا كتبوا: “سركون بولص (١٩٤٣-٢٠٠٧) أخ محبوب وشاعر آشوري معروف، مؤسس قصيدة النثر العربية، ومترجم شكسبير وعزرا باوند وبابلو نيرودا وجبران خليل جبران وآخرين.“ كان سركون شحيحاً في شعره وكريماً في ترجماته. ترك خلفه ست مجموعات شعرية وترجمات لأكثر من ١٣٠ شاعر. في انطولوجيا “رقائم لروح الكون” نجد مجموعة كبيرة من هذه الترجمات التي أنجزها بين ١٩٦٤ وحتى مماته. بدأ سركون النشر في بغداد وبيروت خلال ستينات القرن الماضي لكنه لم يكترث بالنشر حتى عام ١٩٨٥ عندما أصدر ديوانه الأول “الوصول إلى مدينة أين“ عن دار “سارق النار” في أثينا والتي لم يعد لها وجود.
بالاطلاع على محتويات الانطولوجيا، نجد الشعراء موزعين حسب مجموعاتهم اللغوية: من الصينية واليابانية والهندية والبنغالية والتركية، ترجم سركون وانغ وي وتو فو وباشو وغالب وطاغور وشينكيشي تاكاشي وناظم حكمت. من الانجليزية ترجم شكسبير وبوب وبليك ووردسميث وشيلي وكيتس وآلن بو وويتمان وديكنسن وييتس ووالاس ستيفنيز وكارلوس ويليامز وباوند وماريان موور وكونيتز وريتكه وكارل شابيرو وراندل جاريل وجون بيريمان وغينسبيرغ وبوكوفسكي وليفيرتوف واتيل عدنان وآمونز وروبرت بلاي وميروين وساكستون وغريغوري كورسو وديريك والكوت وسيلفيا بلاث وماكلير وشيموس هيني وغيرهم. وعن لغات أوروبية أخرى، ترجم سركون رامبو وماتشادو وبيسوا ولوركا وفاييخو وبورخيس ورفاييل ألبرتي ونيرودا وباز وهاينرش هاينه وريلكه وبريخت وريتسوس وميلوش وفاسكو بوبا. كان سركون يجيد العربية والآرامية الحديثة كلغتيه الأم وتعلم الإنجليزية كلغة ثانية كما كانت له محاولات لتعلم الفرنسية والألمانية. اعتمد على صنعته ومقارنات بين التراجم في انجاز ترجماته. كما ترجم الشعر إلى الإنجليزية، غالباً لشعراء عراقيين وعرب من معاصريه.
في سنواته الأخيرة، انشغل سركون بتحضير أعماله للنشر بعد رحيله. في ٢٠٠٨، صدرت ترجمة “النبي“ لجبران خليل جبران لتكون الترجمة العربية السابعة لهذا الكتاب. يرى سركون أن جبران هو الأب الغير معلن لقصيدة النثر العربية وهو الذي لم يجد في الأدب العربي آنذاك مساحة كافية لهذا العمل الطموح. في ٢٠١٠، خرج اصدار “شاحذ السكاكين” بالإنجليزية حيث جمع فيه سركون أجمل قصائده وقام بترجمتها إلى الإنجليزية بنفسه. في ٢٠١٢، صدرت ترجمته لقصائد أودن متبعة بترجمته لقصائد غينسبيرغ بعدها بعامين. وبهذه المعرفة الشاسعة بالشعر وممارسته للشعر عبر الترجمة، أسس سركون لشعرية جديدة طموحها مستمرة.
في قصائد سركون، نلحظ وجود “الشاعر-المترجم” متجسداً بشخصية الغريب الذي مادام يرحل ويصل إلا أن ذكرياته عن الرحلة دائماً ما تكون مشوشة. يبدأ القصيدة بصيغة المخاطب، الشاعر أو المنفي، ثم ينتقل لصيغة الغائب، القارئ أو الشاهد أو رفيق الرحلة. كثيراً ما يستدعي سركون رحلة خروجه من العراق، هارباً عبر الصحراء، بتفاصيلها الدقيقة لتبقى هي الرحلة الوحيدة الواضحة في مخيلته. في قصيدة “الذاهب إلى المكان” المنشورة في ديوان “إذا كنت نائماً في مركب نوح” عام ١٩٩٨، بإمكان الواحد أن يلحظ غياب الرحلة بين المقطعين الأول والثاني. كمن شفي واستيقظ، يعود الغريب من الموت، لاهثاً ومطارداً، ليعاود الظهور في أماكن نائية. ظهوره المفاجئ هو انتقامه الوحيد، لذا يعاود الوصول، في هيئة، مكان، ساحة. مستمر في العبور، قلق من الذاكرة، لكنه راض عن أنصاف النهايات.
إن ترجمة سركون لقصيدته غاية في البراعة فهو يعرف ما تتطلبه الـ “دويندي” خاصته (أو لعبته الشعرية) خارج بيتها. السطر الافتتاحي يأتي مقتضباً بالعربية ومفصلاً بالإنجليزية، المخدة الحجرية تصبح حجراً غريباً وجده تحت رأسه. والمشية إلى باب الجحيم مجرد عبور بالعربية لكنها خطوات متسارعة بالإنجليزية. أما في تقطيعة القصيدة، نجد أن سركون يترنح بين حركتين. في قصيدة النثر العربية، تقطيعة القصيدة وتراقيمها غير منظمة، لذا غالباً ما ينتهي السطر بقطعة مكتملة من صورة أو مشهد أو فكرة. تشبه في حركتها المشي أعلى السلم مع التقاط أنفاس قصيرة. في الترجمة، لا يقوم سركون باتباع تقطيعة القصيدة كما هو متعارف عليه بالإنجليزية، إلا أنه يحافظ على أسلوبها في تمكين الاستمرارية، أو وعد الترقب.
في ترجمته لقصيدة “انظر أيها الغريب“ لأودن يلعب سركون على تراتبية الصور ليحافظ على هذا الوعد وهو في صميم صنعة أودن. في الإنجليزية، على عكس اللغات السامية، تغلب الجمل الاسمية. وبذا يتعمد سركون تأجيل “الغريب“ و“الضياء“ بعد “انظر“ و“يجلوها“. كما يقوم المترجم بإضافة فواصل على قصيدة أودن ليحاكي ايقاعه البطيء والأفقي. يكتب سركون “حيث كان شعراء المودرنزم [باوند وإليوت بخاصّة[ يستعملون الشكل الجديد للحديث عن حتمية التاريخ، تبنّى كلّ من أودن وبريخت أشكالاً تقليدية للحديث عن الحريّة والاختيار. وسّع كلاهما مجال التعبير ليطال محتوى واستشراف التحليل التاريخي.“ وكمن يخاطب الغريب في قصيدة سركون، يقوم أودن بتذكيره بالرحلة، بمرور الوقت وذبوله، والحضور المستقر للعناصر جميعها. كلا الغريبان مشغولان بالوصول والذاكرة: أحدهما شبح يرتعد من ذاكرته المحطمة والآخر بحار ينتظر التقاط اللحظة.
* نُشرت هذه المقدمة في مجلة Specimen: The Babel Review of Translations