نظمت مجموعة من الشعراء العراقيين قراءة شعرية في حقول ألغام بالقرب من محافظة بابل وسط العراق. انتشرت عبر الفيسبوك صور الشعراء عراة وملطخين بالطين يلقون قصائدهم في فضاء صحراوي مفتوح. وغطت وسائل الإعلام تجربة المجموعة في حالة دهشة من هذا الاقتراب الحميمي تجاه العنف.
يؤكد أعضاء "ميليشيا الثقافة" أن قصائدهم لا ترثي أحداً، كما أنها لا تتوجه لجمهور مباشر لأنهم مؤمنون بموت المتلقي. يقود الميليشيا تسعة شعراء هم أحمد ضياء، أحمد جبور، حسن تحسين، علي تاج الدين، علي ذرب، مازن المعموري، محمد كريم، كاظم خنجر ووسام علي.في القرن الماضي، كان سركون بولص قد رسم صورة عن العراقي في آخر الزمن منثوراً في طواحين بابل الصدئة. وكان ذاك العراقي الأخير يفترض الحميمية مع الأشياء ويشغل باله بآخر ليس له وجود. في حياته تظهر "النكبات" و"المجازر" و"الأسوار" لتقوم فوقها "أوروك" من جديد. ولكن الآن بعد أن مات العراقي مع نهاية الوقت، صار علي أوروك أن تنام بلا رجعة. لذا يحاول شعراء الميليشيا الانخراط في عدمية جديدة تقاطع الأبعاد وتنشغل باحتمالات قضاء اليوم. فما جدوي (بقايا بابل) في القصيدة دون الدبابة التي سحقتها؟ كيف يمكن للواحد أن يعيش دون نصفه؟
من بابل ذاتها - مكان انتهاء العالم، حيث صور الطبيعة المتطفلة السحيقة- يحاول الشاعر دخول حالة فرادية مع الآلة. لذا خرجت علينا هذه الميليشيا مقتحمة سكينة الحرب لتبعث بالأدرينالين في عروق الصفائح. ولد أغلب شعراء الميليشيا في الثمانينات والتسعينات. عبر نصوصهم وقراءاتهم، يتقافزون في مواجهة العنف اليومي بخطوات تراجيدية لاذعة أو خفيفة ومتحايلة، ليقدموا لنا عصارة حكمتهم: إن كنت ستعيش برفقة العنف، فقد يكون من المفيد التسامر معه.
صدر ديوان الميليشيا الأول تحت عنوان "الشعر في حقول الألغام" عن دار مخطوطات في لاهاي ، التي وفرت نسخة إلكترونية مفتوحة من الديوان عبر الفورشيرد. وسم الناشر ناصر مؤنس نسخة الديوان بيد ملتهبة ذات بنصر معقوف لتكون يد المليشيا الصلبة. وكتب عبدالرحمن الماجدي في مقدمته لديوان الميليشيا أن هذه الكتابات/القراءات تؤكد علي "أحد أدوار الأدب والفن كمحرض للجمهور" بل إنه لاحقاً يحرضهم علي اقتحام شارع المتنبي والمهرجانات التقليدية وقد غلبت علي نبرته حالة من الإثارة والتشوق. عبر هذه العدمية، يحلم الشاعر - بقلب مفتوح- بقتل العشرات في موجة هادرة من الرصاص. يكتب علي ذرب مثلاً: كانت مصادفة أن أعثر في نهاية صوتِك علي إصبعي. وأنا عار أنوي رميَ العالم بالرصاص ؟" تتحجج الميليشيا بأن طبيعة عملهم العنيفة لا تسمح بانضمام النساء لهم، علي اعتبار أن النساء غير قادرات علي العنف والتناص معه وتمثيله. كثيراً ما يتم تجديد هذا الافتراض عن ذكورية العنف، بأن الحرب من صنع الرجال وبالتالي هي لعبتهم وحدهم يبدأونها وينهونها ويموتون خلالها. وكأن العراقية لم تمت في المقابر الجماعية، ولم تلفظ أنفاسها الأخيرة في سيارة اسعاف، ولم تحمل السرطان في جسدها بفعل الاشعاعات النووية، ولم ترتد حزاماً ناسفاً من قبل! يعود السؤال مرة أخري إلي احتمالات قضاء اليوم، وعما يتبقي من فتات النهاية. لذا يذهب النص إلي استخدام الافتراضي كوسيط لتأمل الموت المدوي المكرر. هذا يعني أن الآلة لا تحضر فقط عبر الكتل الصلبة الزاحفة والمحلقة- بل في وجودها كأداة للفرجة أثناء محاولة الإنسان تأمل ذاته كما فعل آلهة الأولمب به من قبل. بذا تصبح الشاشة الإلكترونية نافذة إلي المستقبل، أداة لإعادة انتاج اللحظة ومطها وحرقها وتحريرها. نجد وسام علي متسائلاً: "بعدما يتفجر رأسي، هل سيتدحرج علي شاشة اليوتيوب أمام أعين أصدقائي؟" ثم يحكي من بعده كاظم خنجر: "نشروا صورة جثته علي ال"فايسبوك"، أخي الأصغر، وبعدما عجزنا عن العثور عليها، قمنا بطباعة الصورة، تغسيلها، تكفينها، ودفنها في مقبرة العائلة. ليستذكر لاحقاً: عندما تزور أخاك في السجن يتحقق الحراس من الكومبيوتر علي أنَّ اسمك ليس مدرجاً في قائمة المطلوبين وأنك لست إرهابياً. في صورهم، يلتقط الشعراء اللحظات الجامدة من اقتراب الجسد نحو القامة المستلقية لسيارة اسعاف أو عند طوافه حول مفاعل نووي "مشع" بالجمال وكأنه مجرد مايكروويف. في أغلب القصائد، يبدو الجسد باعتباره الحاسة الواحدة والوحيدة. ما يحدث للجسد هو كل ما يحدث في التجربة.
انظروا مثلاً إلي فراسخ ساعة أحمد ضياء وهي "تفركُ مخاضها القابعُ بالألغام، ناثرةً غائطها الكهروبلاستيكي، لحظة هطول يدك. ثم انظر إلي قوله "جسدي زلقٌ ينفلتُ من قبضةِ حائطٍ ملتهبٍ، يهرعُ راكضاً نحو خلاصه/ يسحبُني القاتلُ بحزامه، بعبوتيه الناسفتينِ، بسياراته المفخخة نحو برجينِ منصهرين من الحياة."
نتفرج هنا علي تكاثر الإنسان عند نقاط التقاء العنف بالجسد. من خلال حاسة الجسد أيضاً، يصبح بمقدورنا التماس عذوبة متحجرة مثل تلك التي يحكي عنها ضياء في "أسلاك شرايينه النابتة" حين تواجه "البشر كإطارات ملغومة.
أما في قصائد علي ذرب، فتتداخل الأجساد، لتعبر بعضها البعض كما لو أنها أغشية شفافة. يكتب ذرب في قصيدة أخري أن:
"القاصراتُ لا يمارسن النكاح إنما يعلقن صورهن كإعلاناتٍ عن معجون الأسنان الجديد وأصباغ تلوين الأظفارِ في مدنٍ محذوفة."
تتلاصق أجساد البشر والأشياء عبر صورها، لكنها تفني في النهاية مع انكشاف وهمية المكان. إن الجسد مسرح للعنف اليومي، تتحارب فوقه العناصر لينتصر هو بفعل الفرجة.
في قصائد هذه الأنطولوجيا نجد حالة انسجام شجاعة مع انسياب الزمن فالشخوص لا تغيب دائماً عن قصائد الميليشيا، لكنها راضية عن زوالها المرتقب، لا تتهرب منه ولا تتوجسه. وفي هذه القصائد، لا يمكن اعتبار صوت الشاعر وتأملاته تعبيراً عن فردية فرويدية. حتي إن الجموع تنتفخ وتضيق من حوله في دوائر فقاعية. يقول كاظم خنجر في تعريفه الشخصي أنه "شخصية وهمية"، أي أنه - بالاسم والصفة- ينفي الفردية مرتين.
* نشرت في أخبار الأدب
|
Jan 5, 2016
طوق من الشوك للشعر العراقي
Labels:
Arts,
Literature,
Poetry
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment