في 2008، سجلت الأمريكوقطرية صوفيا الماريا (1983) حضورها في عالم الفن بمفهوم سمته «المستقبلية الخليجية» الذي تمزج فيه الجماليات المعاصرة للخيال العلمي بالمستقبلية الفاشية لمارنيتي وأعوانه. وتستمر الماريا في توسيع هذا المنظور لتفكيك التطور الإشكالي الذي عاشته منطقة الخليج منذ ولادة الدولة الحديثة.
هذا الصيف، افتتحت الماريا عملها الجديد «جمعة سوداء» في متحف ويتني في نيويورك ليكون بذلك أول معرض فردي لها في الولايات المتحدة. عاشت صوفيا (أو صافية) بين واشنطن والدوحة وكانت قد تناولت حياتها المتنقلة هذه في سيرتها الذاتية «الفتاة التي سقطت إلى الأرض» والتي كتبتها بالإنكليزية ثم تمت ترجمتها إلى العربية.
بمشروعها الذي امتد طوال الثماني سنوات الأخيرة، أصبحت الماريا من الأصوات النادرة في منطقة الخليج ممن يكرسون نصوصهم للتنظير حول واقع الرأسمالية والعنف والرجعية الدينية والتكنولوجيا كوسيط يحل مكان المعاش اليومي. درست الماريا الأدب المقارن في الجامعة الأمريكية في القاهرة، ثم حصلت على ماجستير في الفنون من لندن. تنعكس خلفيتها الدراسية هذه في مجمل مشروعها الفني فهي تتكئ على نصوص لبودريار وبالارد وغي ديبور من جهة، بينما تستعين من جهة أخرى بكتاب «جواهر القرآن» للغزالي أو حتى «كتاب الموت أو عالم البرزخ» لماهر أحمد الصوفي. كما تجد في مدونة مهجورة لها على الـblogspot بعض مقاطع الفيديو من شوارع الدوحة كأمثلة على جماليات السرعة والتكنولوجيا التي تضعها محل المساءلة.
في عملها الجديد «جمعة سوداء» تقدم الماريا شاشة عمودية ضخمة تشبه شاشة الموبايل واقفة على كومة من الرمال ومحاطة بأكثر من 40 شاشة بأحجام مختلفة. تقسيمة العمل بحد ذاتها فيها تمثيل للحالة الإشكالية القائمة على استهلاكية متداعية، فالرمل يشير إلى الماضي المدفون الذي تقوم فوقه حياة حديثة ومرتبكة لرأسمالية البترول. في كل من الشاشات المتناثرة، تجد أشلاء من حياة قائمة على الصورة السريعة النافقة، حيث مقاطع لألعاب الفيديو و»سيلفيهات» وأكلات «الفاست فوود» ووجوه مغبشة من أفلام بورنو أو شعارات فلاشية سريعة مثل «تعاون استعماري». أما الشاشة الرئيسة فتعرض فيلماً غرائبياً صورته الماريا في مول «الحزم» في الدوحة الذي صمم على طريقة الغاليريا فيتوريا في ميلان- أقدم مولات العالم. يعتبر مول «الحزم» من أكبر المجمعات التجارية في العالم وهو مزود بصالة لـ (VIP) وسقوف عالية ملونة بالغيوم وصالة للمزادات الفنية ومول مصغر للأطفال على شكل علبة هدايا وحدائق مضبوطة الحرارة بأشجار زيتون عتيقة من إسبانيا.
في الفيديو الرئيسي، يظهر زوار المول في متاهة مستمرة يدورون حول المحلات أو يصعدون السلالم الكهربائية المتجهة نحو السماء. نرى النساء بالعباءات بوجوه مغبشة تلحقها لقطات مقربة لـ "مانيكانات" ساكنة. تدفعك اللقطات إلى مقاربة بين السلع الساكنة والزوار التائهين. في الوقت ذاته، تجد الماريا في حالة التيه والتورط هذه استعارة دينية. يبدو صوت الراوي الإنكليزي في لحظات وكأنه يخرج من حالته الروبوتية ليتلبس صوت الديني خلال خطبة الجمعة. تقول صوفيا إن المولات أصبحت بمثابة «معابد علمانية» تربط الناس من كل مكان تحت مظلة الرأسمالية والعولمة، وأحياناً قد تكون حتى الرابط الوحيد بينهما. وهي بذلك تستعين بمقاربة الناقدة الأمريكية جويس نيلسون التي تشبه «مانيكانات» المحلات بتماثيل القديسين أمام الكاتدرائيات وغرف تبديل الملابس بصناديق الاعتراف الكنسية. نشاهد امرأة العباءة تضيع في المول حتى تسقط أرضاً من التعب إلا أن ارتماءتها على الأرض أشبه بطريقة الرومان في السجود.
لا تحاول الماريا بمفهوم «المستقبلية» أن تعيد تدوير الخطاب الإشكالي عن التكنولوجيا والبناء المتسارع باعتبارها خطوات نحو المستقبل، بل على العكس ترى فيها اقتراباً من المستقبلية الفاشية التي نادت لمجد التكنولوجيا القائمة على تدمير الماضي. تجد الماريا في خطاب «المستقبل» الذي تلوكه الرأسمالية الخليجية محاولة لمسح ماضي المنطقة وطرق العيش الطبيعية لمن عاش بين الصحراء والبحر. وفي هذه الإحالة الجديدة تلتقط الماريا الحريات المفقودة لرجل الطبيعة، الذي يجد نفسه اليوم في حالة عدمية من الاستهلاكية اليومية ليصبح المستقبل بذلك ميتاً سلفاً. كما أنها تُظهر بشكل خاطف شخصية العامل المهاجر الذي تقوم على ظهره أوهام المستقبل، إنها رأسمالية الكارثة. ما يلفت النظر في الأسئلة التي تنشغل بها صوفيا أنها لا تتناول هذه الحالة الراهنة بمعزل عن العالم، فعنوان العمل في حد ذاته «جمعة سوداء» فيه إشارة إلى الطقس السنوي الذي تقيمه الشركات الأمريكية قبل عيد الشكر بتقديم خصومات كبيرة تجلب الزبائن مسعورين إلى محلاتها. تعي الماريا هذه الحالة الاستهلاكية الكونية التي تحفظ للشركات الضخمة بقاءها الدائم على اختلاف المكان والثقافة فهي تجد أن المول أفضل خشبة لمسرحية «المستقبلية الخليجية» حيث تتوقف السلالم الكهربائية في طريقها إلى السماء وكأنها برج بابل الذي انكسرت من تحته اللغة إلى الأبد.
* نشرت في القدس العربي
No comments:
Post a Comment