حينما
تآمرت الآلهة على جلجامش
ماذا
لو أخذ جلجامش بنصيحة الساقية التي أخبرته
بأن الخلود مضيعة للوقت؟ وبقي معها في
الحانة يقلب الثلج في كأسه وينتحب فقد
حبيبه أنكيدو؟ لم يكن على الملك أن يبعثر
شبابه في البحث عن حياة مستحيلة بدلاً من
عيش اللحظة، وهذا ما حذرته منه الساقية:
"إلى أين أنت سائر
يا جلجامش؟ إن الحياة التي تريدها لن
تجدها، لأن الآلهة لما خلقت البشرية،
قدَّرت لها الموت، واستأثرت هي بالحياة
الأبدية.. أما
أنت يا جلجامش فلتكن معدتك مملوءة، واسترسل
بالفرح ليل نهار، وبالسرور كل يوم".
لو سمع جلجامش نصيحة
الساقية لما تغرب عن أوروك ولما ندب حظه
على ما فعلته به الثعابين ولبقيت أوروك
مفتوحة بلا الأسوار التي شيدها من حولها
بعد عودته خائباً إلى الوطن.
صاحي
لو سكران؟
(صاحي
لو سكران) بستة
شهيرة للأستاذ محمد القبانجي - الملقب
بمطرب العراق الأول – سجلها في برلين
آواخر العشرينيات وكان وقتها أول قارئ
مقام يسجل اسطوانة موسيقية. القبانجي
أهم من طور "البستة"
(وأول من غناها واقفاً)
والبستة هي الأغنية
التي تتبع قراءة المقام ويفترض بها أن
تكون فسحة للمغني، ففيها شدو أكثر ووحدة
أقل حيث يشتبك المغني بهمهمات وترديدات
مستمعيه. وتأتي
البستة بعد المقام بترتيب مسرحي، فالمقام
ثقيل الوزن متباطئ الجمال مثل افتتاحية
ملحمية. أما
الانتقالة فتبدو وكأنها البرزخ، تسبقها
أبيات كلاسيكية وتلحقها الدارميات
الشعبية. تدخل
البستة بخطوات راقصة لكنها قد تكون أيضاً
خطوات سكران مترنح كما في أغنية القبانجي
هذه:
ذبني
ذبني عليهم... بالله
يا مجرى الماي
حيران
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
يا
رحنه رحنه من ايديهم... ما
تنفع الوسفات
حيران
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
يا
ليلي ليلي ما نامه... يشهد
عليه غطاي
زعلان
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
يا
ذبني ذبني غرامه... مكَدر
اكَومن عاد
سكران
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
يا
كلما اريدك... تبخل
عليه ليش
زعلان
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
يا
محد عاد يفيدك... بس
الذي يهواك
زعلان
عليمن
صاحي
لو سكران عليمن آه عليمن آه عليمن
وهنالك
مثلاً بستة (غنية
يا غنية) على نغم
البيات التي يقول فيها:
الـقمر
لو غاب وراح
خدك
مكانه وضاح
خل
نطرب نشرب أقداح
وبالحب
إنصفّي النيّة
ويسبقها
بأبيات عبد الغفار الأخرس:
كيف
يصحو من سُكرة الوجد صبٌّ... تاه
في سكره بغير مدام
لستُ
أنسى منازل اللهو كانت... مشرقات
بكلّ بدر تمام
تنجلي
كؤوسَ من الراح فيها... يضحك
الروض من بكاء الغمام
الخمر
ياقوتة والكأس لؤلؤة
يُقرأ
مقام الأوشار بالشعر الفصيح وهو مقام آسر
وخلاب لا يعتق المستمع من سطوته.
ويُقدّم
برفقة الموسيقى دون الايقاع وقد تتخلله
أبيات فارسية كما يفعل القبانجي في منتصف
هذا التسجيل باقتباس قصيدة لسعدي الشيرازي.
أو
قد يصيح القارئ "علي
جان" مثلما
يفعل يوسف عمر وناظم الغزالي في تسجيلاتهم
المقترحة ضمن قائمتنا.
وغالباً
ما تكون المقامات التي تقرأ بالشعر الفصيح
مثل الأوشار مساحة ثرية لشعر الخمريات.
في
هذه القراءة يترك القبانجي انكسار
المحب الظاهر في بستة (ذبني
عليهم) ليأخذ
بكلمات أبو نؤاس التي تدعوه لنسيان ليلى
وهند والاستمتاع بالصحبة الصادقة للخمرة.
لا
تَبْكِ ليلى، ولا تطْرَبْ إلى هندِ،
واشْرَبْ على الوَرْدِ من حمراء كالوَرْدِ
كأساً
إذا انحدَرَتْ في حلْقِ شاربها، أجْدَتْهُ
حُمْرَتَها في العينِ والخدّ
فالخَمرُ
ياقوتة، والكأسُ لُؤْلُؤة من كَفِّ
جارِيَة مَمشوقَة القَدّ
تَسْقيكَ
من عيْنها خمراً، ومن يدها خمْراً، فما
لك من سُكرَينِ من بُدّ
لي
نشوتان، وللنَّدْمانِ واحدةُ، شيءٌ
خُصِصْتُ به من بينِهِمْ وحدي
يا
ساقي الكأس يكفي أيها الساقي
هيجت
بالكأس أشجاني وأشواقي
عني
اصرف الكأس لا تغري بها نظري
هات
اسقني السم ممزوجا بترياق
وليوسف
عمر الكثير من الخمريات من بينها قصيدة
أحمد شوقي "سلوا
كؤوس الطلا هل لامست فاها.. واستخبروا
الراح هل مست ثناياها" وقصيدة
إلياس أبو شبكة "صُبّي
الخُمورَ وَلا تُبقي عَلى مُهجٍ...
مَوج الشَبابِ عَلى
رِجليكِ يَصطخبُ" وأخرى
لابن نباتة المصري "يا
زمان الصبا سقتك الغوادي... أين
كأسي وروضتي ونديمي".
اشرب
كاسك واتهنى
ومن
أوروك (مدينة
الناصرية) جاء
حضيري أبوعزيز بأغنيته الريفية ليكون
أول من يدخل بها إلى الإذاعة. لربما
يتذكره كثيرون بغنائه "عمي
يا بياع الورد" أو
حفلاته المشتركة مع فناني مدينته داخل
حسن وناصر حكيم. في
بستة (اشرب كاسك)
يغني حضيري بصحبة
صالح الكويتي على الكمنجة وداوود الكويتي
على العود ويوسف زعرور على القانون.
وكان لحضيري أغنية
أخرى يذكر فيها الخمرة "أحيا
وأموت عالبصرة.. أم
الطرب والخمرة" منعتها
الإذاعة حينها فاشتهرت بالنسخة المعدلة
لداخل حسن "أحيا
وأموت عالبصرة.. خلت
بقليبي حسرة". هنا
كلمات (اشرب كاسك)
وهي من تأليف وتلحين
حضيري سجلها عام ١٩٤٨.
اشرب
كاسك واتهنى واطلب عليه وأتمنى
لا
تستعجل بس اصبر والليالي اتعودنه
اتهنة
دومك بالأفراح اشرب كاسك وانسى الراح
حلوة
الليلة بيه ارتاح والكعدة وياكم جنة
اشرب
يابعد عيوني لاجلك هلي عادوني
والعذال
لاموني يكلون بطل منه
اشرب
كاسك يا محبوب لفراكك الروح تلوب
انت
الغاية والمطلوب واثنينة نتمنى
ومن
مجايلين حضيري وأصدقائه هنالك زهور حسين
التي ينطرب الناس لبحة صوتها الشجية لا
ينفكون يشبهونه بصوت القارئ في المآتم
الحسينية، ويقال أن زهور انطلقت من المآتم
في كربلاء قبل أن تنتقل إلى بغداد في نهاية
الثلاثينيات ويصعد نجمها. وتميزت
زهور بأدائها أطوار المدينة والريف على
السواء، ويحب الكثيرون أدائها لمقام
الدشت. كان الملحن
عباس جميل قد لحن أشهر أغانيها ومن بينها
"يا أم عيون
حراكًة" و"غريبة
من بعد عينج يا يمة". هنا
تقرأ زهور حسين (مقام
الأوشار أيضاً) من
رباعيات الخيام وتلحقها ببستة فارسية
"مينا مينا":
يا
تارك الخمر لماذا تلوم
دعني
الى ربي الغفور الرحيم
ولا
تفاخرني بهجر الطلى
فأنت
جان في سواها أثيم
أطفىء
لظى القلب ببرد الشراب
فإنما
الأيام مثل السحاب
وعيشنا
طيف خيال فنل
حظك
منه قبل فوت الشباب
العاشقان
ناظم وسليمة
شكلت
سليمة مراد مثلثاً خارقاً مع صالح وداوود
الكويتي في بغداد، وكانت قد سجلت أولى
اسطواناتها في نهاية العشرينيات. لم
تضطر سليمة للرحيل إلى إسرائيل كما حصل
برفيقيها، وكانت من القلائل الذين ظلوا
في مدينتهم. في
١٩٥٣ تزوجت من ناظم الغزالي الذي كثيراً
ما أعاد غناء أعمالها وكانا يتشاركان
احياء الحفلات لكنها انسحبت بعيداً عن
الأضواء بعد وفاته. ومن
ألحان صالح الكويتي البديعة، غنت الست
"قلبك صخر
جلمود" و"جان
القلب ساليك" من
كلمات عبدالكريم العلاف و"هذا
مو انصاف منك" و"يعاهدنني
لا خانني" وهي
من فن الصوت البحريني. في
هذه الأغنية على نغم البيات، تغني سليمة
"اليوم الدنيا
زهت واحنا بفرح يا ناس.. القعدة
وياكم حلت يالله ندير الكاس".
أما
ناظم الغزالي، فخمرياته كثيرة مثل موشح
(أيها
الساقي) وبستة
(أنا
الذي جنت أسقى) التي
سجلها مرة بصحبة جميل بشير على الكمان
ومنير بشير على العود. ولناظم
قراءات عدة لمقام الأوشار، منها هذه
برباعيات الخيام:
لم
يبق مني في الدنيا سوى رمق… وليس في اليد
من صحبي سوى الكدر
لم
يبق لي من طلال أمسي سوى قدح… ولست أعلم
ما الباقي من العمر
عاطني
الراح فهي قوت لنفسي… واسقنيها وإن تزد
في خماري
إن
هذي الدنيا أساطير وهم خيال… والخمر
كالريح ساري
ما
بعد المقام والبستة
حتماً
لا تنحصر الخمريات في الغناء العراقي على
مغنين المقام والريف الذين ذكرتهم، إلا
أن اتكاء التقاليد الموسيقية لهؤلاء على
الشعر العربي الفصيح تجعل رصد الثيمة
أسهل على الذاكرة والبحث. هنالك
مثلاً علي الدبو الذي ترك قراءة المقام
واتجه للتمثيل والمسرح ليؤلف أكثر من
سبعين مولونوج من بينها (سكران
بالك عنه):
سكران
بالك عنه بالك عنه
صوچ
العرق مو منه
يطوطح
يتلولح
كل
ليلة هذا فنه
بعد
ذاك الجيل من الموسيقيين، جاء الجيل
السبعيني في العراق متمرداً ولربما
متأثراً بتراكيب الموسيقى المصرية مع
تفضيله للأطوار الريفية خاصة أن الكثير
منهم ولد في الجنوب أمثال رياض أحمد وفؤاد
سالم وقحطان العطار وسعدي الحلي وحسين
نعمة وياس خضر وسعدي البياتي. وقد
غنى رياض أحمد الكثير من قصائد مظفر النواب
في مواويله والتي لا تخلو من ذكر الخمرة،
ولسبب ما يُنسب موال "أشرب
أريد أنساك.. أسكر
وأذكرك" لرياض
أحمد إلا أنني لم أجد أي تسجيل له.
وكان جيل رياض يحب
الأبوذيات وهو فن شعري شعبي من الجنوب
يأتي في أربعة شطور، وقد يأتي بتكوينات
مختلفة مثل "الأبوذية
المشط". في هذا
التسجيل يبدأ سعدي البياتي بأبوذيات ثم
يغني بستة "أون
وونتي تتسلى بيها الناس... أبجي
ودمعتي صارت خمر بالكاس" التي
غنتها الفنانة المصرية-العراقية
نرجس شوقي
في الأربعينيات.
وحتى
اليوم لم تختف الخمرة عن مؤلفات الأغنية
العراقية- لكنها
تأخذ مكانها غالباً في ملاهي دبي (وقبلها
ملاهي سوريا المهجورة) ومن
بعض الأمثلة الجديدة أغنية علي حاتم
العراقي "أخاف
أشرب تصير ببالي من أشرب" أو
أغنيته مع ميادة العلي "أعطوني
شيفاز أشرب". ومؤخراً
أصدر البرلمان العراقي قراراً بمنع الخمور
في البلاد بحجة تطبيق الشريعة وذلك في
خضم حرب تحرير الموصل. ولربما
نجد في اعتراض النائب فائق الشيخ علي خير
تفنيد لماهية القرار، فلم تعد المليشيات
الاسلامية تحصد الكثير من تأمين الملاهي
وصالات القمار والحانات فصار لابد من رفع
أسعار الخمور عبر حظرها، ليترافق ذلك
أيضاً مع الزراعة الجديدة للخشخاش
(الأفيون) في
الجنوب واستيراد الحبوب المخدرة من إيران،
وهو ما أكد عليه النائب مشعان الجبوري
مضيفاً أن لولا الخمرة لما استطاع الشباب
مقاتلة داعش. وإذا
ما تخيلنا اليوم عودة جلجامش من الجبهة
بعد سقوط داعش، أين سيجلس منتحباً وقد
فقد الحانة؟
* نشرت في معازف
No comments:
Post a Comment